عون الرحمن

قصة كاميليا شحاتة

شرح كتاب العبادات

ما هكذا تورد الابل يا جمعة!!!؟

الأربعاء، 30 يونيو 2010

عندما يتناقض بابا الفاتيكان.. بين ما يدعو إليه ويمارسه

عندما يتناقض بابا الفاتيكان.. بين ما يدعو إليه ويمارسه

نقلا عن : عبد الباقي خليفة - موقع المسلم





بدأ بابا الفاتيكان بنديكت 16 ، في النصف الأول من شهر جمادى الأولى 1430 هجرية زيارة للشرق شملت الأردن ، دعا فيها إلى حرية العقيدة بقوله إن "حرية العقيدة تعتبر أمرا أساسيا من حقوق الإنسان ".
وبقطع النظر عن دعوته لإحلال السلام بشكل عام ( هو بالقطع سلام الصهاينة ) متجنبا التفاصيل كعادة الغربيين عموما ، عندما يتطرقون للقضية ، دون الحديث عن الحقوق الفلسطينية ، كعودة المهجرين والقدس ، ولهذا سنتوقف كثيرا عند حرية العقيدة ، وحقوق الإنسان ، التي فشل في تقمص دور الدفاع عنهما ، وهناك شكوك مؤسسة على حقائق ، في مدى إيمانه الشخصي بهما.



زيارة مختلفة :
قبل الحديث عن زيارة بابا الفاتيكان إلى المشرق ، يجدر بنا العودة قليلا إلى الفاتيكان ، وإلى زيارته الأخيرة لبعض الدول الإفريقية ، فالرجل يعاني من عزلة داخل الفاتيكان ، وفي أحسن الأحوال هناك خلافات حادة بينه وبين عدد كبير من الكرادلة حول تصريحاته التي زعم فيها صحة نظرية داروين ، في أصل الأنواع ، وهو ما عده كثيرون داخل حظيرة الفاتيكان خروجا عن الدين ، وهرطقة ، وإلحاد .
وحاول الكاردينال بيرتوني التهوين مما يجري داخل الفاتيكان بوصف المناؤيين للبابا بأنهم " أصوات ناشز " وقد كانت زيارته لإفريقيا كما قيل ، فرارا من تلك العزلة أو القفص الذي وجد نفسه فيه داخل بيت الأسرار الاكليروسية، ولكنه سرعان ما وقع في مشكلة أخرى عندما صرح في إفريقيا بأن " الواقي الذكري لا ينفع ، ولا يقي من الأمراض الجنسية بما في ذلك مرض الإيدز "، وصدرت من مراكز مختلفة تهكمات قاسية ضد بابا الفاتيكان ، بل اتهامات خطيرة بأنه " وبعض القساوسة قد يكونون مصابين بأمراض جنسية " (..) وقد جر ذلك على بنديكت 16 الكثير من اللوم ، لأنه تحدث في غير اختصاصه ، ولم يستند في قوله إلى أي بحث علمي ، ولم يشر إلى أي نتائج مختبرية .
وكانت تلك سقطات لا تقل شناعة عن زعمه السابق أن " الإسلام انتشر بالسيف " وأنه لم يضف جديدا . وقد كتبنا في حينه ما الجديد الذي جاء به الإسلام وفي مقدمة ذلك إعادة التوحيد إلى منابعه الصافية وتطهيره من شرك الإلوهية وشرك الربوبية وشرك الذات والصفات .
وزيارة بابا الفاتيكان إلى المنطقة ليست بعيدة عن محاولاته الهروب من مكان لم يعد الكثيرون يطيقونه فيه . إلى جانب ما يمكن أن تجلبه له زيارة فلسطين من دعم ومساندة من قبل الطرف الصهيوني ، حيث دعا للمصالحة بين اليهود والنصارى ، ولم يتحدث عن المسلمين سوى بكلام لا يؤسس لمستقبل أفضل ، وركز جل كلامه عن العلاقات النصرانية اليهودية ، رغم أن اليهود يعتقدون بأن مريم عليها السلام زانية وابنها عيسى عليه السلام ابن زنا ، في حين يعتقد المسلمون بأن عيسى نبيا مرسلا وأمه مريم البتول أفضل نساء العالمين .
ولا نعرف بالضبط ما هي الأسباب التي تجعل النصارى يخطبون ود اليهود وهم يقولون كل ذلك عن عيسى وأمه ويكرهون المسلمين لأنهم يؤمنون بنبوة عيسى ويبرؤون أمه من إفك بني صهيون ؟!



معاناة المسلمين :
لقد دعا بابا الفاتيكان إلى احترام حرية العقيدة ، فهل احترم هو شخصيا ، والفاتيكان والكثير من حلفائه في اليمين المتطرف الأوروبي والغربي عموما حرية العقيدة ، واحترموا حقوق المسلمين؟ إذ إن ما يجري في أوربا ومواقف الفاتيكان لا تنبئ عن وجود احترام لحرية العقيدة ، ولا لحقوق المسلمين في ممارسة شعائر دينهم . وسنؤجل الحديث عن التضييق على الحجاب في أوربا ، إلى مجالات أخرى كبناء المساجد ، وممارسة شعائر الصلاة . فضلا عن أنواع الإيذاء الأخرى والتي تتشابه وتختلف من دولة أوروبية إلى أخرى .
ففي مقابلة نشرتها صحيحفة لا ريبوبليكا الايطالية في وقت سابق قال بطريرك البندقية الكاردينال أنجلو سكونا ، ردا على سؤال بخصوص بناء المساجد في ايطاليا " إلى جانب واجب الحكومة في ضمان الأمن القومي ( انظر ربط القضية بالأمن القومي مباشرة ) عليها التمييز بين الحقوق جيدا، بين الحقوق الأساسية والحقوق الأخرى ، أو التذرع بالحقوق " فهو لم يجب جوابا مباشرا على السؤال ، ويرى أن الحرية الدينية ليست من الحقوق الأساسية ، وأن تسمية ذلك بالحقوق مجرد تذرع بها !!


وبعد أن طلب من المسلمين التضحية بتعدد الزوجات في الغرب ، علق على سؤال بخصوص الحجاب قائلا " نفهم جميعا أنه من غير اللائق أن نخلق في أوربا مظاهر اجتماعية تنافر ثقافتها وتاريخها. ووفق هذا المعيار تأتي نظرتي إلى الأمر " أي أنه يرفض الحرية الدينية رغم أن الحجاب لا يختلف كثيرا عن لباس الراهبات عنده في الكنيسة .
وكان الفاتيكان قد وصف الحرب التي شنت على الإسلام في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 م بأنها " حرب عالمية رابعة " وقال رئيس الكرسي الرسولي لشؤون القضاء الكاردينال ريناتو مارتينو " الحرب الباردة ضد الشيوعية كانت حربا عالمية ثالثة ونحن الآن نخوض حربا عالمية رابعة " وقد رأينا كيف شارك الغرب بأشكال مختلفة في هذه الحرب القائمة منذ 1430 عاما لكن أوارها ازداد في العقود الأخيرة ولاسيما في مطلع الألفية الثالثة .



أين الفاتيكان من الحرب على المساجد : يتحدث بنديكت 16 عن حرية المعتقد بينما تحارب المساجد في أوربا وتغلق ويمنع تشييدها وإذا سمح بذلك وضعت لها شروط ، كالبناء دون صومعة ودون وضع هلال عليها وغير ذلك؛ فقد قرر مجلس أساقفة ايطاليا في مارس الماضي إصدار وثيقة رسمية جديدة لمطالبة المجتمع والمؤسسات الايطالية بوقف بناء المساجد والمراكز الإسلامية ، زاعما أن ذلك يمثل تهديدا للثقافة المسيحية . وقال رئيس المجمع الكاردينال جوزيبي بيثوري في كلمة له أمام أعضاء المجمع " إن أي قرار من البلديات يمنح أماكن للمسلمين لبناء مساجدهم سيكون على حساب الدين الكاثوليكي والثقافة الايطالية " وحاول تخويف الايطاليين قائلا " إن الإسلام إذا استحوذ على مكان يكون من الصعب إبعاده "، بل حرض الايطاليين على الإسلام والمسلمين قائلا " على الايطاليين التكتل لمواجهة المد الإسلامي " واتهم عددا من رجال الدين الكاثوليك بالتساهل مع الإسلام والمسلمين .
ورغم وجود نحو مليون مسلم في ايطاليا ، كثير منهم ايطاليين بالوراثة فإن عدد المساجد لا يزيد عن الثمانمائة في البلاد كلها . وكثيرا ما قامت الشرطة بإغلاق المساجد والمصليات كما حدث في أبريل الماضي ، إذ تم إغلاق مسجد مدينة بياتشيتسا بعد 4 أيام من افتتاحه بقرار من لجنة الأمن والنظام العام في قيادة شرطة المدينة . ولم تبد السلطات أي أسباب مهما كانت لتبرير الإغلاق . كما أغلق المركز الثقافي في مقاطعة ايميليارومانيا ،وقال عضو مجلس رابطة الشمال المتطرفة ، مارويتسو يارما " نستطيع العيش بدونه " أي المركز والمسجد .


وفي 13 يونيو الماضي عندما قامت قوات الأمن الايطالية في مدينة نريفيزو الايطالية الصناعية بمنع المسلمين من أداء الصلاة جماعة ، بقرار من عمدة البلدية . وقامت الشرطة بتغريم كل من يحاول الصلاة بألف يورو وهو مبلغ كبير جدا نظرا لحالة المهاجرين الصعبة .
ووصل الأمر إلى المطالبة بإلقاء خطب الجمعة باللغة الايطالية . وهي المطالبة التي رددها وزير خارجية ايطاليا ورئيس حزب ، التحالف القومي ، جان فرانكو فيني . ولا يفوتنا في هذه العجالة ( الأمثلة لا تعد ولا تحصى ) ما قام به عضو مجلس الشيوخ الايطالي روبرتو كالديرولي الذي قام في وقت سابق بذبح خنزير في مكان كان مخصصا لإقامة مسجد . وطالب بتنظيم يوم للخنازير ، يطوف بها في الأماكن التي ينوي المسلمون بناء مسجد فيها . ولم يستنكر بابا الفاتيكان ولا الكنيسة الايطالية مثل التصرفات السابقة التي تعد بلا ريب ضد حرية المعتقد .
وفي سبتمبر الماضي وفي مدينة كولونيا الألمانية ، اتحدت الأحزاب اليمينية المقربة من الكنيسة ضد ما وصفوه بانتشار الإسلام في أوربا ، باسم الدفاع عن القيم المسيحية متناسين حرية المعتقد التي يتشدقون بها ، كل ذلك لأن المسلمين أرادوا أن يبنوا لهم مسجدا يتسع لنحو ألفي شخص ؛ فهناك ملايين المسلمين في ألمانيا ليس لديهم سوى 159 مسجدا .

وفي بريطانيا حذر أسقف مقاطعة روشستر مما وصفه بتراجع تأثير المسيحية أمام تقدم الإسلام ليملأ الفراغ الأخلاقي الذي بدأ في بريطانيا منذ عدة عقود . وفي بريطانيا نفسها اعتبرت إحدى عضوات برلمان الكنيسة الانجليكانية ( سينود ) آليسون روف أن الخلافات بخصوص الشاذين جنسيا داخل الكنيسة وخارجها لا يعد شيئا مقارنة بما وصفته بتهديد الإسلام . وقالت لصحيفة تلي تلغراف " على الكنيسة أن تتجاوز خلافاتها وتركز جهودها على التصدي للإسلام في بريطانيا " ودعت إلى وقف بناء المساجد محذرة من انزلاق الكنيسة نفسها إلى الإسلام .
وأدت حملات التحريض تلك إلى زيادة العداء للإسلام والمسلمين فقد أظهر استطلاع أن نحو مليوني مسلم في بريطانيا يعانون من مشاعر العداء ضدهم ، والتي عبر عنها 51 في المائة من البريطانيين في نفس الاستطلاع .
وفي بلجيكا يشن اليميني المتطرف فيليب دي غنتر حملات مسعورة ضد حرية العقيدة ، إلى حد المطالبة بإغلاق أبواب أوربا نهائيا أمام المسلمين . وألف كتابا سماه " أسلمة أوربا إن شاء الله " ومما قاله في حوار مع إذاعة هولندا أن " الجالية الإسلامية في البلدان الأوروبية هي المشكلة الرئيسية التي تواجه هذه المجتمعات
" وفي دول أخرى حتى السويد تعشش فيها الاسلاموفوبيا .



ماذا ينتظر من بابا الفاتيكان ؟!
كان بابا الفاتيكان نفسه قد حذر الأوروبيين في خطاب سابق له من انحسار الهوية النصرانية في ظل انخفاض عدد المواليد وزيادة عدد المسلمين خاصة وأن الكنيسة تعاني من هجر الطقوس الكنسية وقلة المواليد وثقافة تجاوزت السيطرة على حد تعبيره .
وقال " إن مستقبل أوربا المسيحية كئيب وينذر بالخطر " ومع ذلك لم يخف هوس الكنيسة بتنصير " كل البشر " معتبرا ذلك " الواجب والحق الثابت " على حد تخرصه .
كما دعا الأمين العام للتحالف الانجيلي جودون شويل روجرز إلى " تنصير المسلمين في أوربا " ووزع التحالف الإنجيلي إمساكية لشهر رمضان عليها عبارات تنصيرية .
وعودة لبنديكت 16 ، الذي أعرب في الذكرى 60 لنكبة فلسطين عن شكره للرب لامتلاك اليهود "أرض أجدادهم"، وإذا كان بابا الفاتيكان يعتقد أن اغتصاب فلسطين ، هو عودة الأرض لأصحابها فماذا ينتظر منه ولماذا يراهن عليه أم هي خطة جديدة لاستغباء المسلمين والضحك عليهم باستمرار بتصويره داعية سلام وإمكانية مساهمته في استعادة بعض الحقوق الفلسطينية فضلا عن استرجاع فلسطين .



شهادة أوروبية :
لقد اعترف مكتب الاتحاد الأوروبي، المعني بمراقبة التميز وكراهية الأجانب ، بوجود مظاهر التميز على أساس ديني ضد المسلمين في أوربا . وقالت الدكتورة بياتا فينكلر " الكراهية وصلت إلى حد الاعتداء على المسلمين لفظيا وجسديا " وأن تلك الاعتداءات " تؤدي بهم إلى فقدان الأمل وإعاقة تحقيق منجزاتهم التعليمية والعلمية "؛ فماذا فعل بابا الفاتيكان والكنيسة لوقف ذلك ، أم أنه مسؤول بصفته وشخصه عن مساهمته بتصريحاته المختلفة وتصريحات القساوسة والكرادلة والبطاركة في ذلك . وقال جوزيف دي فت ، مدير مركز المساواة ومكافحة العنصرية الأوروبي ، العنصرية ضد المسلمين زادت ثلاثة أضعاف ، وقال في تقرير بهذا الخصوص " هذه المظاهر تلاحظ في وسائل النقل وأماكن العمل وفي الشارع " .
وإذا كانت حرية التعبير مكفولة للجميع ، فلماذا تنص قوانين الكثير من الدول الأوروبية بما في ذلك ايطاليا على تجريم من ينتقد بابا الفاتيكان . فيما يعتبر التخرص ضد الإسلام حرية تعبير ؟! وتعرض الممثلة صابينا غوستانتي للمحاكمة بسبب انتقادها لبابا الفاتيكان؛ فأين حرية التعبير وأين حرية المعتقد أيها البابوي غير المقدس .

16/5/1430 هـ

الخميس، 24 يونيو 2010

لماذا ندرس الفتنة الكبرى؟

لماذا ندرس الفتنة الكبرى؟
الكاتب موقع قصة الإسلام

مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد.

نفتح اليوم صفحة مؤلمة من التاريخ الإسلامي؛ صفحةَ استشهاد مجموعة ضخمة من الصحابة على أيدي الصحابة، إنها أحداث الفتنة الكبرى، فتنة قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ذي النورين وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنة قتال علي بن أبي طالب معاوية رضي الله عنهما، وفتنة استشهاد هذه المجموعة من الصحابة في حدث كان له الأثر الشديد في تحويل مسار الدعوة الإسلامية في هذه الفترة.

حقيقة، البحث في هذا الموضوع من أصعب ما يكون، وذلك لأن الخوض فيه شائك وخطير، والخطأ فيه يأتي على حساب رجل من أهل الجنة، والصحابة جميعًا نحسبهم من أهل الجنة، وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، ونزلت في فضلهم الآيات الكثيرة، والخطأ فى حق أحدهم إنما هو خطأ عظيم وجسيم.

وسوف نحاول أن نضع بعض الأسس القوية التي من خلالها، وعلى ضوئها نستطيع أن نتناول موضوع الفتنة، وليس من الصواب أن يُقرأ في أحداث الفتنة من أي مصدر، ومن الخطورة أن يقرأ الإنسان عن الفتنة من مصدر غير موثوق، وسنذكر لماذا؟

نحن نريد بداية أن نبني هذا الأساس، والذي يعصم الإنسان من الوقوع في الخطأ في حق أي صحابي من الصحابة الأطهار رضي الله عنهم جميعًا.


أهداف الدراسة
الهدف الأول: الدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم

في البداية لا بدّ من التنويه على أمر النية التي من أجلها نبحث في هذا الأمر وما هو هدفنا، إن هدفنا الأول هو الدفاع عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في حد ذاته شرف كبير، أن نجلس لندافع عن الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة أنه قد كثر الطعن فيهم في هذه الحادثة على وجه الخصوص، ولم يسلم أحد منهم من الإساءة ممن يشوهون الإسلام سواءً عن جهل أو عن قصد ورغبة.

يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه كما جاء في الأثر:

إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

وعندما نفكر في هذه الجملة نجد أن لها معنى عميقًا، فكيف يكون الإنسان، وكأنه كتم ما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يدافع عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟!

إن هذا الدين جاءنا عن طريق الصحابة رضي الله عنهم، فالقرآن نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنبأ به الصحابة، فكتبوه، وحفظوه، وبلّغوه لنا، والسنة المطهرة لم يكتبها الرسول صلى الله عليه وسلم بخط يده، بل نقلها الصحابة رضي الله عنهم عنه صلى الله عليه وسلم، فالطعن في أحد هؤلاء الصحابة إنما هو طعن في السنة، بل في القرآن الذي أتى من قِبَل هذا الصحابي مبلغًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كلنا نعرف كم يطعن الشيعة في كثير من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ربما يأخذ إنسانٌ ما هذا الأمر بشيء من البساطة ويقول:

ما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فليست هناك مشكلة. لكن في الواقع الأمر جدّ خطير.

تعالوا نرى عواقب طعنهم في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا إن الصحابة فيهم كذا وكذا، وبدءوا الطعن فيهم واحدًا بعد الآخر، حتى كفروهم جميعًا إلا خمسة، ومن يقول بذلك هم الموجودون في عصرنا؛ الشيعة الاثنى عشرية، أو الجعفرية، والخمسة الذين لم يكفّروهم هم:

علي بن أبي طالب، والمقداد بن عمرو، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وتساهل بعضهم فلم يكفّر أحد عشر من الصحابة وكفّر باقيهم، ويسمون أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب الجبت والطاغوت، وطعنوا في السيدة عائشة وفي الصحابة جميعًا بما لا حصر له.

وبناءً على تكفيرهم لهم وطعنهم فيهم رفضوا كل ما جاء على ألسنتهم، ورفضوا كل الأحاديث التي رواها هؤلاء الصحابة.

مائة وأربعة عشر ألفًا من الصحابة على أصح تقدير كلهم جميعًا- وحاشا لهم ما يقولونه عنهم- خانوا الأمانة، فالأمر إذن خطير، كل هذا الكم من الأحاديث التي رووها باطلة.

والبخاري رحمه الله روى عنهم، فكله باطل، وما جاء في البخاري على لسان علي رضي الله عنه، وعلى لسان سلمان الفارسي، وعلى لسان كل من لم يكفروه باطل أيضا.

وكذلك صحيح مسلم، والترمذي، والنسائي، وأبي داود، وكل كتب الصحاح لأهل السنة باطلة في زعمهم.

بل الأدهى من ذلك والأخطر طعنهم في القرآن الكريم، جاء في كتاب الكافي- وهذا الكتاب عند الشيعة بمثابة صحيح البخاري عندنا، وهو أوثق الكتب عندهم- عن جعفر الجعفي قال:

سمعت أبا جعفر عليه السلام، وأبو جعفر الصادق بريء منهم، ومما نسبوه إليه، وهو من نسل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويسمونه الإمام السادس، يقول:

ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذّاب.

فالقرآن في قولهم لم يُجمع كما أنزل، وما جمعه وحفظه كما أنزل إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده. ومع ذلك فالأئمة من بعده لم يظهروا القرآن، ويقولون في رواياتهم أن القرآن الكريم سبعة عشر ألف آية، مع أننا نعرف أن القرآن الكريم (6236) آية فقط، ويقولون أنه ثلاثة أضعاف القرآن الذي معنا، ويقولون أن هذا القرآن مخبّأ مع الإمام الغائب الذي سيأتي في يومٍ ما، وأن القرآن الذي بين أيدينا اليوم به الكثير من التحريفات والضلالات، ولكنهم يقرون بها في هذا الزمن بعقيدة التَّقِيَّة، وهي أن تظهر خلاف ما تؤمن به، وما ليس في قلبك حتى يُمكّن لك، والتَّقِيَّة عندهم من أهم العقائد حتى أنهم يقولون: من لا تَقِيَّة له فلا دين له، ويقولون أن التَّقِيَّة تسعة أعشار الدين، إذن هم يظهرون إيمانهم بهذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم، لكنهم يقولون في كتبهم:

القرآن الحقيقي الذي هو سبعة عشر ألف آية، نزل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على السيدة فاطمة عليها السلام، وحفظت هذا القرآن وتناوله من بعد ذلك الأئمة بعد علي بن أبي طالب، ويزعمون أن كثيرًا من الآيات سقطت من القرآن، كما في سورة الشرح [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ] {الشرح:1}. ويقولون سقطت: وجعلنا عليًا صهرك.

وهذا الكلام في كتاب الكافي، وهذه هي سورة الولاية الموجودة في مصحف إيراني، وليست عندنا بالطبع في القرآن، وهذا السورة على هذا النحو:

يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي وبالولي الذَين بعثناهما لهدايتكم إلى صراط مستقيم. نبي وولي بعضهما من بعض وأنا العليم الخبير. إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم. والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآيتنا مكذبين؛ إن لهم في جهنم مقامًا عظيمًا. إذا نودي لهم يوم القيامة أين الظالمون المكذبون للمرسلين. ما خلفهم المرسلين بالحق وما كان الله ليظهرهم إلى أجل قريب وسبح بحمد ربك وعلي من الشاهدين.

إذن فالدفاع عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يساوي تمامًا الحفاظ على هذا الدين، وإذا مُكّن لهؤلاء الذين يدّعون هذه الأشياء فسوف تُمحى السنّة، ويُمحى الدين الذي أراده الله عز وجل للناس، وقد حدث هذا بالفعل عندما تمكن هؤلاء المنحرفون من الحكم في بعض البلاد الإسلامية، مثل مصر عندما حكمها الفاطميون فألغوا السنّة تمامًا، وقاموا بكل شيء أقلّه كفر، ومن يقرأ تاريخ الفاطميين فسيجد الكثير من ذلك.

الهدف الثاني: التدبر في التاريخ

فالتاريخ يعيد نفسه، وهذه هي سنة الله


[فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا]


{فاطر:43} .

إن ما حدث بين الصحابة في هذا الوقت، أسباب الخلاف، وطبيعته، ونتائجه، أمور تتكرر في عصور كثيرة، وفي عصرنا هذا وإلى يوم القيامة، فلا بد من معرفة أسباب الخلاف الرئيسة، وكيف استمرّ؟

وما هي نتائجه؟

وكيف انتهى؟

حتى نستفيد من هذا الأمر [فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الأعراف:176}


[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]


{يوسف:111}.

الهدف الثالث: تصحيح العقائد المنحرفة

فمن خلال مدارستنا لهذه الأحداث، وكيف ظهرت هذه الفرق الضالة والمنحرفة، وما هي العقائد المنحرفة التي يتبعونها، وكيف اتبعوا هذه العقائد، فنعرف هذه العقائد ورأي السنة في هذه العقائد الضالة.

وإذا اجتمعت هذه النيات في قلوبنا، وهي أن مدارستنا لأحداثنا الفتنة إنما هو لأجل هذه الأهداف السامية، وليس لأجل سماع القصص والروايات والتي هي من الكثرة بمكان في تلك الأحداث، وربما كان سماعها مسلّيًا للبعض، وهذا الأمر من الخطورة بمكان، فقد سُئل الحسن البصري عن الفتنة فقال: عصم الله سيوفنا من دمائهم فنريد أن نعصم أقلامنا من أعراضهم.

ومن الضروي، ونحن في بداية هذه الدراسة أن نقول:

إن المعلومات التي يعرفها الكثير من الناس عن هذه الأحداث فيها الكثير من التشويه، وما درسناه في المدارس، والجامعات كله مشوّهٌ قصدًا، والغرض منه واضح، وسنذكره لاحقًا إن شاء الله.

والدراسة العلمية في هذا الأمر ستقودنا إلى الحديث عن قاعدة هامة من قواعد الخوض في الفتنة، وهذه القاعدة تمثّل علمًا أنعم الله تعالى على المسلمين به، وهذا العلم هو علم الرجال أو علم الجرح والتعديل.

وينبغي بداية أن نقول:

إن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متن وسند، وعلم الجرح والتعديل، أو علم الرجال يبحث في السند من حيث الصحة أو الضعف، فتعريف الجرح عند علماء الحديث:

ردُّ الحافظ المتقن روايةَ الراوي؛ لعلة قادحة فيه، أو في روايته من فسق، أو تدليس، أو كذب، أو شذوذ، أو نحوها كأن يقول: هذا الرجل فيه شيء، كذاب، وضّاع، ليس بثقة، ينسى كثيرًا.

والتعديل: وصف الراوي بما يقتضي قبول روايته.

ومن خلال الحكم على السند نستطيع أن نعرف ما إذا كان الحديث صحيحًا، أو ضعيفًا، أو موضوعًا، أو غير ذلك.

وعلم الرجال هو علم مستقل تخصص فيه العلماء الكبار من أمثال يحيى بن معين، وكان معاصرًا لأحمد بن حنبل، وغيره الكثير من علماء الأمة ورجالها.

وهذا الأمر يهمنا كثيرًا حيث إن أكثر من 75 % من أحاديث الفتنة، وروايتها جاءت من طرق ضعيفة جدًا، وموضوعة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة رضوان الله عليهم.

ومن المهم أن نقول أيضًا:

إن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لم تُدوّن إلا في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أي بعد ما يقرب من مائة سنة من الهجرة، وذلك عندما رأى أن الناس تنسى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخشي عليها من الضياع، فأمر الزهريَّ، وهو أحد العلماء الكبار في ذلك الوقت، فذهب يكتب هذه الأحاديث ويجمعها، ولم يكن يوجد من الصحابة إلا عدد قليل ربما يُعد على الأصابع، ونعرف أن آخر الصحابة قد توفي سنة 110 هـ، فكان اعتماد الزهري الكلي على علم الرجال، وأخذ يدقق، ويجمع، وجاء بعده العلماء من أمثال البخاري ومسلم وغيرهم، وأخذوا يكتبون الأحاديث عن فلان عن فلان، وظهرت أهمية علم الجرح والتعديل.

عندما يقرأ إنسان ما في سنة 600 هـ حديثًا من الأحاديث، ويقول: إن هذا الحديث صعيف؛ لأن فيه فلان بن فلان، وهو كذاب، فهو شيء في غاية الدقة، ولكي يتمكن العلماء من الحكم على الحديث بهذا الشكل؛ كانوا يدرسون حياة الإنسان كاملة، متى ولد، ومتى توفي، وفي أي بلد عاش، ومدة إقامته بكل بلد عاش فيها، واشتهر بالصدق، والأمانة، أو بالكذب والخيانة وما إلى ذلك.

فهذا العلم حفظ لنا السنة، وحفظ لنا أفعال الصحابة، وكذلك حفظ لنا أحداث الفتنة، خاصة وأن فيها الكثير من الوضع.

إذا نظرنا إلى كتب الشيعة الموجودة لا نجد عندهم هذا العلم- علم الجرح والتعديل- بهذه الكفاءة الموجودة عند أهل السنة، فنجدهم يقولون عن فلان عن فلان ويذكر الأسماء ثم يقول: عن عمه عن أبيه عن جماعة من الناس. من؟

لا أحد يعرف ولا أحد يستطيع أن يجرح، أو يعدّل، فكان الكثير من الإبهام عندهم، كما أن الكثير من رواتهم قد أجمع أئمة أهل السنة على الطعن فيهم كما سيأتي.

انتشر الوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الدولة العباسية، لماذا؟

لقوة شوكة هؤلاء المنحرفين، وقد حاربهم الخلفاء العباسيون أشد المحاربة؛ لزجرهم عن هذا الأمر، ولكنهم استمروا في وضع الأحاديث.


من أسباب وضع الأحاديث:
قسم العلماءُ من يضع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجموعات منهم

1- مجموعة الزنادقة:

الزنديق هو: الخارج عن الدين الطاعن فيه بعلمه، كسلمان رشدي في زماننا؛ لم يكتف بردته عن الدين، بل بدأ يطعن في الإسلام في كتاباته، هؤلاء الزنادقة بدءوا يدخلون الإسلام في الظاهر بقصد التشويه فيه، واللعب في نصوصه، وعقائده، فيضعون الأحاديث التي تحرّم الحلال، وتحلّ الحرام، - ومثال ذلك رجل اسمه محمد بن سعيد المصلوب، والذي قتله أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي بعد ذلك لما علم بوضعه للأحاديث، ومن الأحاديث التي وضعها: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله.

- ومثله عبد الكريم بن أبي العوجاء وقد قتله أحد الأمراء العباسيين أيضًا عندما علم أنه وضع بعض الأحاديث، وكان ابن أبي العوجاء هذا شديد الكراهية للإسلام؛ فعندما قُدّم للقتل قال:

تقتلني في بعض الأحاديث، والله لقد وضعت على رسول الله أربعة آلاف حديث، أحلل فيها حرامًا، وأحرّم فيها حلالًا.

فهذا بمفرده وضع هذا الكم الكبير من الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن مجموع ما وضعه الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث منها أحاديث كثيرة مشهورة كما سيأتي.

2- المتزلفون إلى الأمراء:

هم من يريدون التقرّب إلى الأمراء، فبدأ هؤلاء يضعون الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى هؤلاء الأمراء، ومن هنا بدأ الطعن في بني أمية؛ لأن العباسيون كانوا هم من يحكم، فلإرضائهم لا بد من الطعن في بني أمية، ومن ثَم ظهرت الروايات التي تطعن في سيدنا معاوية رضي الله عنه وأرضاه، والروايات التي تطعن في ابنه يزيد، وكان تقيًا ورعًا، فقالوا: إنه اشتهر بالخمر والنساء، وقالوا عن الوليد بن عقبة المجاهد الكبير أنه كان مولعًا بالخمر، وطعنوا في عامر بن عبد الله، وكذلك طعنوا في كل الولاة بما فيهم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، لكونه من بني أمية ولم يسلم رضي الله عنه من طعنهم.

3- المتزلفون إلى العامة:

كان هناك طائفة من الناس يُسمون القصاصين، يقصون للناس القصص والحكايات، ولكون المجتمع مسلم يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحب الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا، كانوا يحكون لهم هذه القصص على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى لسان الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، فيرون لهم القصص الغريبة، والعجيبة، والباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وينسبون ذلك إلى الصحابة افتراءً وكذبًا.

ومن طريف ما يُروى أن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين صليا في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاص، فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس، قال: قال رسول الله: من قال لا إله إلا الله، خلق الله من كل كلمة طيرا منقاره من ذهب، وريشه من مرجان.
وأخذ في قصته نحوا من عشرين ورقة.
فجعل أحمد بن حنبل ينظر إلى يحيى بن معين، وجعل يحيى بن معين ينظر إلى أحمد، فقال له: حدثته بهذا؟!

فيقول: والله ما سمعت هذا إلا الساعة.
فلما فرغ من قصصه، وأخذ العطيات، ثم قعد ينتظر بقيتها، قال له يحيى بن معين بيده: تعال.

فجاء متوهماً لنوال، فقال له يحيى: من حدثك بهذا الحديث؟

فقال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.

فقال: أنا يحيى بن معين، وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله.

فقال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق، ما تحققت هذا إلاّ الساعة، كأن ليس يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، وقد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.

فوضع أحمد كمه على وجهه، وقال: دعه يقوم.

فقام كالمستهزىء بهما.

كان هذا هو الحال في عهد أحمد بن حنبل رحمه الله (164 - 241 هـ )، وهو قريب من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بالنا بالعصور التالية.

4- المتعصبون لمذهبهم أو بلدهم:

وهذه الطائفة تُعدّ من أخطر الطوائف، ومن منطلق التعصب لمذهبهم قام الشيعة بوضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والروايات المفتراة على الصحابة، خاصة في أحداث الفتنة، وقد كان لهذا الأمر رواجًا كبيرًا؛ نظرًا لقوة شوكة الشيعة في ذلك الوقت، كما تعصبوا بشدة لفارس، وخلطوا في أمور كثيرة، بل أدخلوا على الإسلام كثيرًا من العقائد المجوسية، وسنفصّل ذلك إن شاء الله عند الحديث عن عقائد الشيعة.

ومن أمثلة الأحاديث التي وضعوها:

- يقوم الرجل للرجل إلا بني هاشم فإنهم لا يقومون لأحد.

- وأيضًا من الأحاديث التي وضعوها يقولون:

لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين أصحابه، فجاء علي رضي الله عنه تدمع عيناه، فقال:

يا رسول الله آخيت بين أصحابك، ولم تؤآخ بيني وبين أحد.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:

يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة.

فهذا حديث موضوع يظنه البعض صحيحًا.

- النظر في المصحف عبادة.

- ونظر الولد إلى الوالدين عبادة.

- والنظر إلى علي بن أبي طالب عبادة.

- ومن الأحاديث الموضوعة أيضًا:

أنا خاتم الأنبياء، وأنت يا علي خاتم الأولياء.

- ثم يحاولون أن يقللوا من قدر السيدة عائشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون:

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

يا عائشة أما تعلمين أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وامرأة فرعون.

ولم يذكروا السيدة عائشة، مع أن من المعروف أن زوجة المؤمن في الدنيا هي زوجته في الآخرة، ويطعنون في السيدة عائشة رضي الله عنها طعنًا كبيرًا، وأحاديث أخرى من هذا القبيل، وعندهم رجل يُسمّى ميسرة بن عبد ربه، قد اعترف بأنه وضع بمفرده سبعين حديثًا في فضل علي بن أبي طالب.

ونحن نعرف أن عليًا رضي الله عنه ليس بحاجة إلى هذه الأحاديث، حتى ترفع من قدره، فكلنا نعرف قدر علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الإسلام، وقدره عند الله عظيم، فليس هناك ما يبرر الافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم بادّعاء أحاديث في فضل هذا الرجل، والطعن في بقية الصحابة، حتى يصبح هذا الرجل هو المنصور، وهو الأحق بالاتباع دون بقية الصحابة.

5- المتحمّسون للإسلام:

كان من بين هؤلاء من يضع الأحاديث أيضًا، وهذا شيء عجيب، ولكن يزول العجب عندما نعرف أن الذي دفعهم إلى وضع الأحاديث أنهم وجدوا أن الناس بعدوا عن الإسلام، وقصّروا في قراءة القرآن، وفي التزام السنّة، فأرادوا أن يحمّسوا الناس لقراءة القرآن وعمَل السنن، وذلك بوضعهم للأحاديث.

وكان من هذا الصنف رجل يُسمى أبو عصمة نوح بن أبي مريم قاضي (مرو) إحدى بلاد إيران، وقد وضع على كل سورة من سور القرآن الكريم حديثًا في فضلها؛ من قرأ سورة كذا فله كذا وكذا، ومن الأحاديث المنكرة أيضًا

لكل شيءٍ عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن.

6- أصحاب الأغراض الدنيوية:

هذه الطائفة من الناس تضع الأحاديث لمصلحتهم الدنيوية، ولا يتورعون من نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة هذا النوع قول أحدهم وهو ينسب الكلام للرسول العظيم صلى الله عليه وسلم:

بارك الله في عسل بنها.

ويبدو أنه كان يبيع عسلًا، ويريد الترويج له ثم يعلق على حديثه الموضوع قائلًا: بنها هذه قرية من قرى مصر.

ومن أمثلة ذلك أيضًا:

من احتجم يوم الثلاثاء لسبعة عشر من الشهر كان دواءً لداء السنة.

وأيضًا:

ما أفلح صاحب عيالٍ قط.

وهذا الأمر إنما هو نتيجة لضعف الإيمان، وغياب الدين عن النفوس.

وكما نرى كثرت الأحاديث الموضوعة من أكثر من وجهٍ، فالزنادقة يشوهون الإسلام عن قصد، وأصحاب المذاهب يحاولون إظهار مذهبهم، والطعن في المذهب الإسلامي الصحيح، ومن يريد أن يقص على الناس قصصه المصطنعة المثيرة للعجب، والذين يتقربون إلى الأمراء العباسيين بالطعن في الأمراء الأمويين.

وبدأت آثار هذه الأحاديث الموضوعة تظهر على أحداث الفتنة.

وإذا رجعنا إلى الكتب التي تتحدث عن الفتنة نجد مجموعة من رواة الأحاديث منهم:

أبو مخنف لوط بن يحيى، والواقدي، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فهؤلاء الأربعة ترجع إليهم معظم روايات الفتنة المشكوك فيها.

ماذا قال علماء السنّة في هؤلاء الأربعة؟

قال الإمام ابن حجر العسقلاني:

لوط بن يحيى أبو مخنف إخباري تالف لا يوثق به.

وقال الدارقطني: ضعيف.

وقال يحيى بن معين: ليس بثقة. وقال مَرّة: ليس بشيء.

وقال ابن عدي: شيعي محترق.

أما الواقدي فيقول عنه الذهبي: مجمعُ على تركه.

ويقول ابن المديني: الواقدي يضع الحديث.

ويقول البخاري: الواقدي متروك الحديث.

ويقول معاوية بن صالح:

قال لي أحمد بن حنبل: الواقدي كذاب. وقال مرّة: ليس بشيءٍ.

وقال الشافعي: كتب الواقدي كلها كذب.

وقال ابن المديني: عندي عشرون ألف حديث للواقدي ما لها أصل، وإبراهيم بن يحيى كذاب، وهو عندي أحسن من الواقدي.

أما محمد بن السائب الكلبي وابنه هشام فذُكر فيهما الكثير والكثير من الطعن، ومما يُروى عن محمد بن السائب أنه كان يقول أنه علم وسمع عن فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس، ويتلقى الوحي، وقام لقضاء حاجته، فجلس مكانه علي بن أبي طالب فألقى عليه جبريل الوحي.

فهؤلاء الأربعة من الأئمة الأخيار عند الشيعة، وتمتلئ كتب الشيعة بالمدح فيهم والثناء عليهم.

ومن ثَمّ فعلينا عند دراستنا لموضوع الفتنة أن نعرف المصدر الذي نأتي منه بهذا الكلام جيدًا، هل مصدر ما نرويه هو هؤلاء الوضاعين الكذابين أم هو مصدر وثقه علماء الجرح والتعديل؟

وهذا الأمر يتطلب جهدًا كبيرًا وعملًا متواصلًا حتى يتضح الأمر بصورة صحيحة.

ما هي كتب أهل السنة الصحيحة التي روت هذه الأحاديث؟

- أصح الكتب في هذا المجال هي كتب الصحاح الستة، وأصحها كما هو معروف صحيح البخاري، بل هو أصح الكتب على الإطلاق بعد القرآن الكريم، هكذا قال علماء الجرح والتعديل، وقالوا جميعًا: إن حجة البخاري أقوى على من نازعه.

انتقى الإمام البخاري رحمه الله كتابه الصحيح الذي تبلغ أحاديثه بالمكرر منها سبعة الآف وثلاثمائة وسبعة وتسعين حديثًا، وبدون المكرر ألفان وستمائة واثنين من الأحاديث، انتقى هذه الأحاديث من ستمائة ألف حديث،

ولم يكتب حديثًا من الأحاديث إلا صلّى قبله ركعتين يستخير الله أن يكتب هذا الحديث أم لا، وكان يسافر الأميال البعيدة طلبًا لحديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ولد الإمام البخاري في سنة 194 هـ في قرية تُسمّى (بخارى) من قرى (خراسان) فهو ليس بعربي، وقد مات رحمه الله عن اثنين وستين سنة.

- يأتي في المرتبة الثانية بعد صحيح البخاري صحيحُ مسلم، وهو من الكتب المهمة أيضًا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن بعض العلماء يجعلونه على مرتبة البخاري، وبعض العلماء يقولون:

إن صناعة الحديث عند مسلم من ناحية تحرّى السند، وتنظيم كتابه، أفضل من البخاري، لكن البخاري أصح، ومن ثَم يُقدّم على مسلم، ويوجد بعض الأحاديث وإن كانت قليلة جدًا نُوزِع فيها الإمام مسلم، وكان الحق مع من نازعه، وغير المكرر عنده أربعة آلاف حديث، لكن البخاري كما ذكرنا فيه 2602 حديث غير مكرر، وقد ولد الإمام مسلم في (نيسابور) فهو غير عربي أيضًا، ومات وعمره سبعة وخمسين عامًا.

- يأتي بعد مسلم في المنزلة النسائي وقد ولد في (نسا)، وهي تابعة لخراسان، وليس بعربي أيضًا، وقد ولد في سنة 215 هـ، ومات، وعمره 88 سنة، وكان من أدق الناس في الرجال.

- بعده سنن أبي داود وفيها أربعة الآف وثمانمائة حديث، وهو عربي، ولد في البصرة سنة 202 هـ، ومات وعمره 73 سنة.

- ثم الترمذي وفيه بعض الأحاديث الضعيفة، لكنها محققة، وكان الترمذي يشير إلى الحديث من ناحية الصحة، والضعف، ولم يشر إلى ضعف بعض الأحاديث، وصححت من قبل علماء الجرح والتعديل، وقد ولد الترمذي في (ترمذ) على ضفاف نهر (جيحون) في أفغانستان سنة 209 هـ، وليس بعربي، ومات وعمره 70 سنة، ومن شدة ثقة البخاري فيه كان يأخذ منه، مع أن البخاري شيخ الترمذي.

- ثم سنن ابن ماجه، وهو في المرتبة السادسة، ويقال:

إن ما انفرد به ابن ماجه غالبًا ما يكون ضعيفًا، إلا ما اتفق فيه مع غيره من الأئمة.

وقال ابن حجر: إن هذا الأمر ليس على الإطلاق.

وهذا يعني أنه قد ينفرد ببعض الأحاديث دون أن تكون ضعيفة.

وُلد ابن ماجه في قزوين سنة 209 هـ، فهو ليس بعربي، وكما نلاحظ أن كتب الصحاح الستة قد كتب منها خمسة من غير العرب، وسبحان الله الذي أنعم على المسلمين بفتح هذه البلاد، ودخل منها الإسلام من حفظوا لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

- يأتي بعد هذه الصحاح مسند الإمام أحمد، وهو أعظم المسانيد على وجه الأرض.

لماذا لم يضعه العلماء مع الكتب السابقة؟

هناك فرق بين الصحيح والمسند، فكتب الصحاح والسنن مرتبة حسب الأبواب، وحسب المواد التي بها، أما المسند فيكون مرتبًا حسب الصحابة فيقول مثلًا:

الأحاديث التي رواها عبد الله بن عمر كذا وكذا، والأحاديث التي روتها السيدة عائشة كذا وكذا وهكذا.

وفي المسند غير مكرر 30000 حديث، أو نحو ذلك، و40000 حديث بالمكرّر، ويقال أن الإمام أحمد كتب هذه الأحاديث من سبعمائة ألف حديث، وقيل: ألف ألف حديث.

وزاد عبد الله بن أحمد بن حنبل بعد ذلك على المسند بعض الأحاديث، وقد قيل: إن مسند الإمام أحمد ليس به حديث واحد موضوع، وإن بعض الأحاديث الموضوعة إنما جاءت عن طريق ابنه.

هذه هي المصادر الموثوق فيها عندنا، وعلماء الجرح والتعديل من المعرفة والشهرة بمكان، فعندما نبحث في أحداث الفتنة ينبغي أن تكون هذه هي مراجعنا التي نثق فيها، ونترك المراجع الغير موثوق فيها التي بها الكذب والوضع.

وقد يتساءل البعض: من يطعن في الإسلام اليوم؟

ربما يظن البعض أن هذا الطعن كان في عهد الدولة العباسية، وكانوا يطعنون في الأمويين تقربًا إلى العباسيين، فلماذا الطعن الآن، ومن يطعن؟

إن من يطعن في الإسلام اليوم إنما هم أصحاب المذاهب المنحرفة، فكل من خرج بفرقة منحرفة يطعن في الإسلام من وجهة نظر الفرقة التي ينتمي إليها، ويذكر الأحاديث الموضوعة، والضعيفة مستشهدًا بها على رأيه المنحرف والضال.

وقد كانت هذه الروايات الموضوعة المكذوبة كنز حصل عليه المستشرقون عندما بدءوا التنقيب في كتب التاريخ الإسلامي كلها، ونقلوا هذه الروايات إلى لغاتهم المختلفة، وقالوا بأن الدين الإسلامي انتشر عن طريق الحروب وأنه متى تملك أحد من المسلمين السلطة فإنه يحارب الآخر، ويقاتله، ووصفوا أحداث الفتنة من هذه الروايات المكذوبة.

أما المستغربون، وهم الذين تربوا على يد الغرب، ثم جاءوا يطعنون في الإسلام في بلادهم، فهم أصحاب أسماء إسلامية ويعيشون بين المسلمين، وربما كانوا يصلّون، أو يصومون، ومع هذا يطعنون في الإسلام طعنًا شديدًا، ومن هؤلاء طه حسين، وهو من الشهرة بمكان، ويلقبونه عميد الأدب العربي، وهو وإن كان أديبًا إلا أنه من أشد أعداء الإسلام، وجميع كتبه تطعن في الإسلام، وكان يعلّم تلامذته النقد في القرآن الكريم، ويقول: هذه الآية بناؤها قوي وهذه الآية بناؤها ضعيف.

ومن أقواله:

إنه ليس معنى أن قصة إبراهيم وإسماعيل وردت في القرآن الكريم أن تكون حقيقية، فربما كانت روايات من الفن القصصي في القرآن الكريم، ولا بد لتصديقها من وجود حفريات وأدلة مادية تؤيد ذلك.

كما طعن طه حسين في كتبه في كثير من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، إلى درجة أن الأزهر الشريف كفّره، وحكم بردته، ووقتها كان أستاذًا بكلية الآداب، ثم زعم أنه تاب، وعاد إلى الله وألّف كتابًا يتقرّب به إلى علماء الأزهر، وهذا الكتاب في ظاهره الدفاع عن الإسلام، وفي باطنه الكثير من الطعن والروايات الموضوعة والمكذوبة.

كما أن الكثير من أمثال طه حسين، والمعاصرين له الذين درسوا في فرنسا وإنجلترا، وغيرها من البلاد الأوربية جاءوا بمثل هذه الأمور.

ومن الكتب الخطيرة أيضًا في هذا المجال كتب عبد الرحمن الشرقاوي، ومن يقرأ عن أحداث الفتن في هذه الكتب يجده قد طعن في جميع الصحابة بلا استثناء.

كما أن كتاب خالد محمد خالد (رجال حول الرسول) وكتابه (خلفاء الرسول) قد طعن في من كان مع معاوية ضد علي رضي الله عنهم جميعًا، وطعن أيضًا في أبي موسى الأشعري مستدلًا بقصص واهية ومكذوبة.

ومن أولئك الطاعنين في الصحابة الدكتورة زاهية قدروة عميدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية السابقة في كتابها (عائشة أم المؤمنين)،

وعندما كنت أقرأ في هذا الكتاب كدت أن أتقيّأ من شدة الاشمئزاز مما كُتب،

فمن بين ما كَتَبَتْ تقول:

أصل الخلاف بين علي وعائشة أن الرسول تزوجها، وكانت الأقرب إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقدت عليها السيدة فاطمة، فكرهتها، وبثت شكواها إلى عليّ فكرهها، وهذا مما جعله يحاربها بعد ذلك.

أيضًا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب السيدة فاطمة، فحقدت عليها السيدة عائشة، وكرهتها.

تقول المؤلفة أيضًا:

إن عليًا رضي الله عنه كان من الذين طعنوا في السيدة عائشة في حادث الإفك، فكرهته عائشة وحملتها له.

وتذكر الكاتبة أن عليًا وفاطمة قد أظهرا الشماتة في السيدة عائشة في حادث الإفك، ولما ظهرت برآتاها كلّمتهما في ذلك.

أيضًا تقول:

إن السيدة عائشة رضي الله عنها حاربت عليًا رضي الله عنه؛ لأنه أخذ الخلافة بعد عثمان رضي الله عنه، وكانت تريدها لطلحة بن عبيد الله لأنه من قومها.

وهكذا نرى المجتمع المسلم في ذلك الوقت في نظر الكاتبة أكثر انحطاطًا من مجتمع المسلمين اليوم.

ومراجع الكاتبة ومصادرها شيعية، ولا أدرى ما إذا كانت تعرف ذلك أم لا، فإن كانت لا تعرف، فتلك مصيبة، وإن كانت تعرف فالمصيبة أعظم.

وتذكر الكاتبة أنه بعد كل هذا الحقد الدفين بين السيدة عائشة، وسيدنا علي قامت بينهما معركة الجمل، وضاعت كل هذه الدماء الطاهرة بسبب الكارهية، وهذا الحقد الدفين كما تزعم الكاتبة.

وكانت السيدة عائشة في زعم الكاتبة الباطل تنقِم على عثمان بن عفان، ومن ثَم ألّبت الناس عليه، ولما همّ عبد الله بن عباس أن يبقى في المدينة ليدافع عن عثمان رضي الله عنه- وكان أميرًا للحج في هذا العام- قالت له:

يا عبد الله لا تبق في هذه المدينة، ولا ترد الناس عن هذا الطاغية.

هكذا روج هؤلاء المستغربين لأفكار باطلة كاذبة؛ ليطعنوا الأمة في أعز ما لديها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


من هم الصحابة؟
نحب أن نشير أيضًا إلى معنى الصحابة، حتى نكون على علمٍ بقدر من نتحدث عنه.

الصحابي هو: كل من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورآه أو اجتمع به في حياته، ومات على الإيمان، فيدخل فيهم من ارتد، ثم رجع إلى الإسلام كالأشعث بن قيس.

وعدد الصحابة في أصح الأقوال مائة وأربعة عشر ألفًا.

أما التابعي فهو من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتقى بصحابي وتعلم منه، وهم درجات فمنهم الدرجة العليا كسعيد بن المسيب، فإن معظم رواياته عن الصحابة، والطبقة الوسطى من التابعين مثل: عكرمة، وقتادة، وعمر بن العزيز، والحسن البصري وغيرهم، والطبقة الصغرى، وهم من أخذوا أحاديث قليلة من الصحابة، ويوجد من يُسمّى بالمخضرم، وهو من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ولم يره، كالنجاشي.

ويُجمع علماء الجرح والتعديل أن كل الصحابة عدول فكل ما قالوه حق، ربما يكون خطأً، لكنه ليس فيه كذب، ولا خيانة، ولا تدليس، وقال العلماء:

لا تضر الجهالة مع صحابي.

أي أنك إذا علمت أن فلانًا من الصحابة، ولا تعرف عنه أي شيء إلا يقينك بصحبته، وقال جملة ما، فما قاله صحيح لا كذب فيه، فهذا هو تعاملنا مع صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ثًمّ فلا يجوز على الإطلاق الطعن في أحد من الصحابة، وإذا فعل أحد من الصحابة فعلًا، ويحتمل هذا الفعل نيّتين، فيُحمل الأمر على الأحسن، وحسن الظن مطلوب في حق كل المسلمين، وفي حق الصحابة أَوْلى.

وإذا تبيّن خطأ أيٍّ من الصحابة نقول: اجتهد فأخطأ فله أجر.

وقد كثر الطعن في كثير من الصحابة كما نعرف كمعاوية رضي الله عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عنه:

اللَّهُمَّ اجْعَلْهَ هَادِيًا مَهْدِيًّا.

وكثيرٌ ممن يطعن في معاوية رضي الله عنه إذا ظل يعمل طوال حياته فلن يفعل ما فعله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من الخير في سَنَة واحدة، وقد هدى الله على يديه الأمم الكثيرة.

ولا يدفعنا كرهنا لعقائد الشيعة، ووضعهم الأحاديث أن نقلل من قدر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو من قدر الحسين، أو من قدر السيدة فاطمة، أو من قدر أحد من أهل البيت رضي الله عنهم، فإن لهم في الإسلام مكانة عظيمة، ولكن لا إفراط ولا تفريط.


مراجع موثوق فيها:
هناك مجموعة من المراجع الموثوق فيها التي تحدثت عن أحداث الفتنة، وهي:

- العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي، وهو من أفضل الكتب على الإطلاق التي كُتبت للرد على من طعن في الصحابة رضي الله عنهم، وهو غير كتاب العواصم والقواصم.

والقاضي أبو بكر بن العربي ولد بأشبيلية بالأندلس في أواخر القرن الخامس الهجري، وحفظ القرآن وعمره خمس سنوات، وحفظ القراءات العشر، وعمره ستة عشر سنة، ثم أخذ يسيح في الأرض طالبًا العلم، فرحل إلى الجزائر، ومصر، والحجاز، والشام، وفلسطين، وغيرها من البلدان، وقد التقى خلال رحلاته بالكثير من العلماء المشهورين، وتعلّم منهم، ورجع ليؤلّف، وقام بعمل أكثر من خمسة وثلاثين مؤلفًا، ومن مؤلفاته كتاب (أنوار الفجر في تفسير القرآن) وعدد صفحاته مائة وستين ألف صفحة، وكانت تحمله الجمال، وقد كتبه في أواخر القرن الخامس الهجري وحفظ في أكثر من مكان حتى انتهى به الأمر في القرن الثامن الهجري عند ملك مراكش وفُقد هذا الكتاب، وكان ابن العربي قد كتبه في عشرين سنة، ومن أروع مؤلفاته هذا الكتاب (العواصم من القواصم)، وقد علّق عليه علامة من العصر محب الدين الخطيب، وأضاف عليه الكثير والكثير مما يسعد المرء أن يقرأه.

- كتاب (منهاج السنة النبوية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وحق له أن يُلقّب بشيخ الإسلام، وسيف السنة المسلول على المبتدعين، وهذا الكتاب لا غنى عنه لمن يبحث في عقائد الشيعة، والقدرية، ومن يبحث في أحداث الفتنة، ويقع في أربعة أجزاء، ويستخدم المنطق، والعقل في الرد، والدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم.

- كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير، وهو من أوثق الكتب، وأفضلها وينبغي لكل مسلم أن يجعله عنده، ولا بدّ من الأخذ في الاعتبار أن ابن كثير في بعض الأحيان كان ينقل عن الواقدي، فهذه الروايات تسقط، ولكن ابن كثير كان يذكر الروايات الأخرى الموثوقة، وقد نقل ابن كثير عن شيخه الطبري الكثير.

- كتاب (الشيعة والتشيع) لإحسان إلهي ظهير، وهو من أفضل من كتبَ عن الشيعة وفضحَ مخططاتهم، وقد اغتيل حديثًا في ظروف غامضة، وكتابه هذا من أفضل ما كتُب حول الشيعة والتشيع.

- كتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي، يذكر قصة كل خليفة، وإن كان لم يتورع بشدة في رواية أحداث الفتنة.

وقد توفي السيوطي سنة 911 هـ.

- كتاب (حماة الإسلام) لمصطفى نجيب، وهو من الكتب القيّمة الصغيرة، ومعظم ما ورد فيه موثوق، وتعليقات المؤلف على ما ورد تعليقات جيدة وفي محلها.

- وكتب استشهاد الحسين لابن كثير.

- رأس الحسين لابن تيمية.

- العقائد الشيعية لناصر الدين شاة.

- حقيقة الخلاف بين علماء الشيعة وجمهور علماء المسلمين لسعيد إسماعيل.

- الأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثنى عشرية لمحب الدين الخطيب؛ العلّامة الذي قضى جزءًا كبيرًا من حياته في دراسة وتفنيد أصحاب دعاوى التقريب بين علماء الشيعة، وعلماء السنة، ويقول أنه لا تقريب، إن هذا شيئًا مختلفًا بالكلية عن دين الإسلام، وكما سيأتي في دراسة عقائد الشيعة الموجودة في كتبهم.

فهذه هي العقائد التي ينبغي أن نفهمها، ونحفظها جيدًا، ونحن بصدد دراسة هذا الموضوع الخطير؛ أحداث الفتنة، وعندما نقرأ في أي كتاب من الكتب لا نسلم رقابنا لأي كاتب.

لأنهم يريدون أن يفهّموا الناس أن الدولة الإسلامية ما قامت إلا في عهد أبي بكر وعمر فقط، بعد ذلك لا يمكن للإسلام أن يقيم دولة، فما دام الإسلام قد جاء، وحكم فستكون الدماء، والأشلاء، والضحايا، فلا داعي إذن لإقامة دولة الإسلام، وإلا كان مصيرنا كمصيرهم، فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم وهم من أخذوا من الرسول مباشرة، قد فعلوا هذه الأفاعيل- في زعمهم- فماذا سيفعل غيرهم، فهذا هو الهدف الرئيسي الذي من أجله ينشرون هذه الروايات، وهذه الأكاذيب.

ومن ثَم فعليك عندما تقرأ في هذه الأحداث أن تتأكد من المراجع والمصادر التي تذكر الحدث، وتعرف مدى الصحة والضعف.

ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه

ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه

الكاتب موقع قصة الإسلام

مقدمة
كنا قد ذكرنا قبل ذلك أن هدفنا الأول من دراسة هذه الأحداث هو الدفاع عن الصحابة رضوان الله عليهم، وكفى بذلك شرفًا، وذكرنا قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:

إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكرنا أيضًا علّة هذا القول، وأن هؤلاء الصحابة هم الذين نقلوا لنا القرآن، والسُّنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طُعن فيهم بكفر، أو فسق، أو كذب، أو خيانة، وسكت من عنده علم، فإن معنى ذلك أن كلّ ما في أيدينا مما نُقل عنهم ليس بثقة، ولا يُؤخذ به، وفي هذا الأمر هدمٌ للدين، وكتمان لما أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومما ينبغي أن نؤكد عليه في هذا الصدد عدالة الصحابة جميعًا أي أنهم جميعًا أهل ثقة وأمانة ولا يقبل بحال إتهامهم، وإن أخطأ أحدهم في الرأي نقول: اجتهد فأخطأ فله أجر، ورواياتهم التي تثبت صحتها؛ مقبولة تمامًا.

يقول الله تعالى مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}.

ويقول عز وجل: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا] {البقرة:143}.

ويقول تعالى: [لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] {الفتح:18}.

وكثير من أصحاب البيعة الذين رضي الله عنهم يُطَعن فيهم، ويوصمون ليس فقط بالفسق، ولكن بالكفر، ونعوذ بالله من ذلك، وقال الله عز وجل: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100}.

ويقول أيضا: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {الأنفال:64}.

ويقول تعالى: [لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر:8}.

ويقول عز وجل: [وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحديد:10}.

- وروى عبد الله بن مسعود عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينّ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ أَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ، وَيَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا.

رواه أبو هريرة وعمران بن حصين وورد في البخاري ومسلم.

- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ. رواه البخاري ومسلم.

أما علماء الشيعة فيقولون:

إن خلفاء المسلمين الثلاثة الأُول، قد خانوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما قال مهدي العسكري في كتابه، وقد نشرت وزارة الإرشاد الإسلامي بجمهورية إيران الإسلامية كتيبا جديدا يصنف فيه جيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعا إلى ثلاث مجموعات كالآتي:

المجموعة الأولى:

هم الذين رضي الله عنهم- وهم في الحقيقة الذين رضي عنهم علماء الشيعة- وهم لا يتجاوزون أصابع اليدين، وهم:

علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي.

المجموعة الثانية:

وصفها الكتاب بأنها أسوأ العناصر، وأنها انتحرت تحت أقدام الطغاة، ومن هؤلاء عبد الله بن عمر بن الخطاب.

المجموعة الثالثة:

وصفها بأنها باعت شرفها، وباعت كل حديث بدينار، وتضم في رأيهم- عياذا بالله من هذا الرأي- أبا هريرة وأبا موسى الشعري وغيرهم.

وأبو هريرة كما نعرف مِن أكثر مَن روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان قد اشترى دينه ببعض الدراهم كما يدعون، فيكون كل ما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم- في زعمهم الفاسد- باطل، وكذا عبد الله بن عمر الذي روى بمفرده أربعة آلاف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أمر في غاية الخطورة، ويقولون عن خالد بن الوليد عديم المبالاة، وعثمان أرستقراطي، وعبد الرحمن بن عوف عابد المال، وسعد بن أبي وقاص عديم التقوى.

وهؤلاء الثلاثة: عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، من العشرة المبشرين بالجنة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن يكذبون؟!

الصحابة أم الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

وخالد بن الوليد كما نعرف سيف الله المسلول.

يقول الخميني في كتابه (كشف الأسرار):

إن أبا بكر، وعمر، وعثمان لم يكونوا خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أكثر من ذلك يقول:

إنهم غيروا أحكام الله، وحللوا حرام الله، وظلموا أولاد الرسول، وجهلوا قوانين الرب وأحكام الدين.

فهذا قليل القليل من كثير يقال افتراء، وكذبا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم.

أما علماء السنة فيقول أحمد بن حنبل رحمه الله:

إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء، فاتهمه على الإسلام.

وقال إسحاق بن راهويه:

من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس.

ويقول الإمام مالك:

من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل بكفره، ومن سب أصحابه أُدّب.

وقال القاضي أبو يعلى:

الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة؛ إن كان مستحلا لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلا لذلك فسق.

ويقول ابن تيمية:

من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا، أو أنهم فسقوا عامة الصحابة، فلا ريب في كفره.

ويقول أبو زرعة الرازي:

إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق.

لأجل هذا كله كانت دراسة هذه الأحداث للدفاع عن الصحابة الكرام، وتبرئتهم مما ألصقه بهم هؤلاء الطغاة الجهال، واتبعهم في ذلك كثير من جهلة المسلمين من السنة، وكتبوا فيها كتابات كثيرة لا ندري إن كانت عمدا فتكفرهم، أم جهلا فتفسقهم؟

من أمثال عبد الرحمن الشرقاوي وعائشة قدروة عميدة كلية الآداب بالجامعة اللبنانية سابقا التي طعنت بشدة في السيدة عائشة، وسيدنا علي، والسيدة حفصة، والسيدة فاطمة، وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا.

هذا رجل من أعظم الناس في ميزان الإسلام، وقد لقب بهذا اللقب لزواجه ابتتي الرسول صلى الله عليه وسلم السيدة رقية، والسيدة أم كلثوم، وهذا أمر في غاية الشرف، ولم يجمع أحد من البشر على مدار العصور ابنتي نبي غير هذا الصحابي الجليل، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أم كلثوم رضي الله عنها: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَجَّنَاكَهَا.

هذا الخليفة المظلوم طُعن فيه كثيرا، وحتى من قِبَل جهال السنة الذين يكتبون دون تمحيص أو دراية.

وقد استُخلف رضي الله عنه على المسلمين في بداية العام 24 هـ، وظل خليفة للمسلمين حتى قتل سنة 35 هـ، بعد الكثير من الادعاءات الظالمة التي ألصقت به رضي الله عنه وأرضاه من بعض الذين ادعوا الإسلام، وبعض المسلمين الذين اتبعوهم جهلا في ذلك الوقت، حتى قتلوه رضي الله عنه، وبعد ذلك بالغت الشيعة في الطعن في عثمان رضي الله عنه على أساس أنه أخذ الخلافة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالاحتيال مع عبد الرحمن بن عوف، ونعوذ بالله من زعمهم.

من هو عثمان بن عفان؟
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، فهو رضي الله عنه ينتمي إلى بني أمية، ويلتقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجد الرابع عبد مناف، وهذا شرف كبير أن يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأم عثمان رضي الله عنه هي أروى بنت كريز وأم أروى هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب توأمة عبد الله، والد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فعثمان رضي الله عنه هو ابن بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذن من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم من جهتي الأم والأب.

ولد عثمان رضي الله عنه بعد ست سنوات من عام الفيل، فهو أصغر من الرسول صلى الله عليه وسلم بست سنوات، ومن أوصافه أنه كان رجلا ربعة ليس قصيرا ولا طويلا، حسن الوجه، أبيض مشربا بحمرة، بوجهه نكتات جدري، كثير اللحية تملأ ما بين منكبيه، وكانت لحيته بيضاء لكبر سنة، عظيم الكراديس- كبير العظام- بعيد ما بين المنكبين، طويل الذراعين، وشعره قد كسا ذراعيه، كان جعد الرأس، وكان أحسن الناس ثغرا، وكان من أجمل الناس، وقد اشتهر بذلك، وكان يقال عنه، والسيدة رقية رضي الله عنها أنهما أجمل زوج.

أسلم رضي الله عنه على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان رابع من أسلم بعد أبي بكر، وزيد بن حارثة، وعلي بن أبي طالب، وقد قابله أبو بكر يوما بعد نزول الرسالة فقال له:

ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومنا، أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟

قال: بلى هي كذلك.

فقال أبو بكر رضي الله عنه:

والله هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه؟

فقال: نعم.

فاجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يَا عُثْمَانُ، أَجِبِ اللَّهَ إِلَى حَقِّهِ، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ، وِإِلَى خَلْقِهِ.

قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.

فكانت استجابته للإسلام سريعة بفضل الله تعالى، وهو من حسنات أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

وبعد إسلامه تزوج من رقية رضي الله عنه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أنه كان زوجا لها قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع شرفه، ومكانته في قومه إلا أنه عندما أسلم آذاه أهله إيذاء شديدا، وكان يتولى تعذيبه عمه الحكم بن العاص، فكان يجلده فلا يرده ذلك عن دين الله شيئا.

عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة كان رضي الله عنه من أول من هاجر إليها هو وزوجته السيدة رقية، وتبعهم المسلمون بعد ذلك، وكان الهدف من الهجرة إلى الحبشة، هو تكوين نواة للمسلمين بالحبشة حتى إذا استأصلت نواة مكة يصبح للمسلمين مكانا آخر ينطلقون منه بعد ذلك.

وفي أثناء وجود المسلمين في الحبشة أشيع أن أهل مكة قد أسلموا، ورجع بعض المسلمين إلى مكة، وكان منهم عثمان بن عفان، والسيدة رقية رضي الله عنهما، ولما علم المسلمون أن تلك كانت شائعة كاذبة استقر منهم بمكة من قدمها، واستقر بالحبشة من لم يأت منها.

ثم هاجر عثمان رضي الله عنه وزوجه رقيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكان صاحب الهجرتين، وقليل من الصحابة من كان كذلك، وكان رضي الله عنه ونظرا لكثرة ماله يعتق الكثير من العبيد، سواء في فترة إقامته في مكة أو المدينة، وبعد أن تولى الخلافة أيضا استمر في عتق العبيد حتى قيل:

ما مرت جمعة إلا وأعتق عثمان رضي الله عنه رقبة.

وهذا منذ أسلم حتى لقي الله تعالى، وإذا مرت جمعة دون أن يعتق رقبة لقلة مال، أو قلة رقاب أعتق في الجمعة التي تليها رقبتين.

ومن محاسنه رضي الله عنه، والتي لا تخفى على أحد أنه عندما أتى المدينة المنورة كان اليهود يتحكمون في المياه فاشترى بئر رومة على نفقته الخاصة، وحفرها، وجعلها للمسلمين، ونصيبه فيها كنصيب المسلمين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: مَنْ حَفَرَ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ.

تأتي بعد ذلك غزوة بدر، ونعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج لبدر لم يكن في نيته القتال، وإنما خرج المسلمون للعير، وكان عثمان رضي الله عنه ممن يصرون على الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين إلا أن الله عز وجل لم يرد ذلك، فقد مرضت السيدة رقية رضي الله عنها مرضا شديدا، وأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمكث معها ليطببها، ويمرضها، فمكث معها رضي الله عنه وأرضاه، وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن معه إلى بدر وكان القتال، والنصر، ورجعوا إلى المدينة، فوجدوه يدفن السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي زوجته رضي الله عنهما، وأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم من الغنائم، وكأنه من المشاركين في هذه الغزوة، وزوجه الرسول صلى الله عليه وسلم من ابنته أم كلثوم رضي الله عنها، ومكثت معه حتى السنة التاسعة من الهجرة، وتوفاها الله تعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَجَّنَاكَهَا.

ومن فضائله رضي الله عنه أنه لما كان في المدينة بعد هجرة المسلمين إليها اشترى من ماله الخاص أرضا حول المسجد النبوي توسعة للمسجد.

وتأتي بعد ذلك غزوة أحد التي بدأت بالنصر للمسلمين، ثم مخالفة الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالهزيمة للمسلمين، وقتل الكثير من الصحابة وفرار الكثير، ومنهم عثمان رضي الله عنه، وذلك لهول وعظم المعركة، ولكن الله عز وجل بمنه، وفضله، وجوده، وكرمه أنزل قوله تعالى:

[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] {آل عمران:155}.

ومن عفا الله عنه في أمر من الأمور فلا يجوز لأي إنسان أن يُعَرّض- ولو مجرد تعريض- بهذا الأمر، وعندما تكلم أناس في (ماعز) بعد أن زنى ورجم قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ماعز: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ وُزِّعَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ.

ومر النبي صلى الله عليه وسلم على جيفة حمار، وكان معه هذين الذين تكلما في أمر (ماعز) فقال لهما: انْزِلَا فَكُلَا مِنْ هَذِهِ الْجِيفَةِ.

فقالا: سبحان الله، يا رسول الله، كيف نفعل ذلك؟

قال صلى الله عليه وسلم: فَمَا فَعَلْتُمَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.

وكانت هذه الغيبة في حق رجل اعترف بزناه، فكيف بنا مع رجل أعلن الله عز وجل في القرآن أنه عفا عنه، وتجاوز عن هذه الأمر.

بعد ذلك، وفي السنة الرابعة للهجرة كانت غزوة ذات الرقاع، استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، فكان أميرا للمدينة في غياب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شارك في الخندق، وفي غطفان استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة.

عثمان وبيعة الرضوان
لما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة قبل صلح الحديبية ورفضت مكة دخوله، والمسلمين ليطوفوا بالحرم، أراد صلى الله عليه وسلم أن يرسل أحد الصحابة؛ ليعلمهم أنهم ما أتوا لقتال، أو حرب، وإنما أتوا للعمرة، واختار صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فقال عمر رضي الله عنه:

إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني؛ عثمان بن عفان.

ووافق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي، ودعا صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه، وبعثه إلى أبي سفيان، وإلى أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت بحرب، وأنه جاء لمجرد العمرة، فدخل رضي الله عنه مكة، وأجاره أبان بن سعيد بن العاص، وهو أحد أبناء عمومته، وقام معهم بالمفاوضات، وأوضح لهم الأمر، فطلبوا أن يقوموا ببعض المفاوضات مع النبي صلى الله عليه وسلم فوافقهم، ولما هم بالرجوع عرضوا عليه أن يطوف بالبيت الحرام، وكان هذا حلما لكل المسلمين بعد هجرة سنوات وسنوات بعيدا عن مكة، ولكنه رضي الله عنه قال لهم:

ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مكث عثمان رضي الله عنه في مباحثاته مع أهل مكة ثلاثة أيام، وفي هذا الوقت أشيع عند رسول الله، وعند المسلمين أن عثمان قد قتل في داخل مكة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم صحابته جميعا، وتبايعوا على الموت انتقاما لمقتل عثمان رضي الله عنه، وفي هذا ما فيه من التشريف لعثمان رضي الله عنه، وفي أثناء هذه المبايعة يأتي جميع الصحابة ليبايعوه فوضع صلى الله عليه وسلم يده مكان يد عثمان بن عفان، فكانت خير يد في هذه المبايعة.

وشارك رضي الله عنه بعد ذلك في فتح خيبر، وفتح مكة، وجاءت بعد ذلك غزوة تبوك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:

مَنْ يُجَهِّزُ الْجَيْشَ؟

فقام عثمان رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، عليَّ مائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها.

أي بكل ما تحمله، فَسُرّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب من المسلمين أن يساهموا في الجيش، فقام عثمان رضي الله عنه مرة أخرى فقال:

عَلَيّ مائة أخرى بأقتابها وأحلاسها.

وأخذ رضي الله عنه يزيد على نفسه، تقول بعض الروايات أنه أنفق ثلاثمائة وقيل ألفا من الإبل، ثم ذهب إلى بيته، وأتى بألف من الدنانير، وضعها في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومائتي أوقية من الفضة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ.

قالها صلى الله عليه وسلم مرتين في حقه رضي الله عنه.

وعندما حوصر رضي الله عنه في الفتنة قال: أنشدكم بالله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ.

فجهزتهم؟ قالوا: نعم.

وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: اشترى عثمان الجنة مرتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حفر بئر رومة، وحيث جهز جيش العسرة.

عثمان وخلق الحياء
وقد جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه كثيرا من مكارم الأخلاق، فكان رضي الله عنه حيِيّا شديد الحياء، ففي صحيح الإمام مسلم عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها عائشة قالت:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي، كاشفا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوى ثيابه- قال محمد ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث، فلما خرج، قالت عائشة: دخل أبو بكر، فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عمر، فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست وسويت ثيابك، فقال:

أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ.

وفي سنن الترمذي وعند الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.

وفي مسند الإمام أحمد ‏عن ‏ابن عمر‏ ‏قال: ‏ ‏خرج علينا رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: ‏رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ ‏ِبِأَبِي بَكْرٍ،‏ فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ ‏َفَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ ثُمَّ رُفِعَتْ.

إذن فإيمان عثمان بن عفان رضي الله عنه يزن إيمان هذه الأمة، وكان رضي الله عنه حافظا للقرآن عن ظهر قلب، ويقول السيوطي في (تاريخ الخلفاء):

لم يحفظ القرآن من الخلفاء قط إلا اثنان؛ عثمان بن عفان، والمأمون العباسي.

عثمان والقرآن
وكان عثمان رضي الله عنه محبا لقراءة القرآن، فكان يكثر من قراءته حتى أن السيدة نائلة زوجته لما حوصر قالت: اقتلوه، أو دعوه فإنه والله كان يقوم الليل بركعة يقرأ فيها القرآن.

ويقول عثمان رضي الله عنه: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعت من كلام ربنا، والله إني لأكره أن يأتي عَلَيّ يوم لا أنظر فيه في المصحف.

ويقول عبد الله بن عمر:

إن قول الله تعالى: [أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ] {الزُّمر:9}. نزلت في عثمان بن عفان.

وقال عبد الله بن عباس: نزل قول الله تعالى: [وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {النحل:76}. في عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وكان رضي الله لينا مع غلمانه، وبعد أن تولى الخلافة كان يقوم الليل دون أن يوقظ غلمانه ليجهزوا له الماء، ويقول: الليل لهم يستريحون فيه.

وكان رضي الله عنه كثير الصيام حتى قيل إنه كان يصوم الدهر، أو قرب الدهر، وكان كثير القيام، وكان خطيبا مفوها، وقد آتاه الله الكثير من الفصاحة، ومن الورع، ومن التقوى، وفي آخر خطبة خطبها قال:

إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى، وإن الآخرة تبقى، لا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، اتقوا الله، فإن تقواه جُنة من بأسه، ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم، ولا تصيروا أحزابا [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] {آل عمران:103}

وقد شهد له كثير من الصحابة بأنه كان خطيبا مفوها يقول عبد الرحمن بن حاطب: كان عثمان بن عفان أتم الناس حديثا، ولكنه كان رجلا يهاب الحديث؛ لأنه كان حييا شديد الحياء.

ومع هذا ينقل الواقدي رواية يقول فيها أن عثمان رضي الله عنه أول ما استخلف قام خطيبا فقال: أيها الناس أول كل مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها، وما كنا خطباء، وسيعلمنا الله.

وقد نقل ابن كثير هذه الرواية عن الواقدي، لكنه قال في موضع آخر: إن هذا لا يوافق الواقع.

عثمان وخلق الكرم
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه كريما شديد الكرم يعطي من يعرف ومن لا يعرف، يصل عطاؤه إلى كل من في المدينة سواء قبل أن يكون خليفة، أو بعد أن استخلف، ومما يروى في ذلك أن أبا طلحة كان مَدِينا لعثمان بخمسين ألف درهم، وبعث أبو طلحة إلى عثمان يقول له:

إن أموالك قد اكتملت فأرسل من يأخذها.

فقال عثمان رضي الله عنه: قد وهبناها لك لمروءتك.

في حين تقول الكاتبة المستغربة زاهية قدروة عن هذا الصحابي الجليل: كان رجل يكرم أهله ولا يعطي بقية الناس ولا يهتم بالمسلمين.

هكذا تقول عن عثمان رضي الله عنه.

وهذا القدر الكبير العظيم لعثمان رضي الله عنه لم يمنع هؤلاء الأفاكين أن يلصقوا بعثمان رضي الله عنه الكثير من الافتراءات والادعاءات، جاء في كتاب البرهان، وهو من الكتب المعتبرة عند الشيعة: إن المراد من قول الله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً] {النساء:49}. هم الذين سموا أنفسهم بالصديق والفاروق وذي النورين.

وجاء في كتاب حق اليقين للمجلسي:

إن كبار الصحابة اتفقوا على تفسيقه، وتكفيره؛ أي الصديق والفاروق، ثم يقولون في حق عثمان بن عفان: وكان حذيفة بن اليمان- على زعمهم الباطل- يقول: الحمد لله لا أشك في كفر عثمان.

ويقولون: إن الذي يعتقد في عثمان بأنه قتل مظلوما يكون ذنبه أشد من ذنب الذين عبدوا العجل. كتاب حق اليقين ص 271.

كان عثمان رضي الله عنه رجلا حكيما، وقد كان من مجلس شورى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجلس شورى أبي بكر الصديق، ومجلس شورى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يرفضان أن يخرج عثمان رضي الله عنه من المدينة في أي فتح من الفتوح، حتى يستعينا برأيه في الأمور المهمة، وكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

في آخر سنة 23 هـ، تحدث كارثة عظيمة للمسلمين، وهي مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقد حدث ذلك تحديدا في 27 من ذي الحجة 23 هـ، طعنه أبو لؤلؤة المجوسي في ذلك اليوم، فتوفي رضي الله عنه في آخر ليلة من تلك السنة بعد أن استخلف على المسلمين ستة من الصحابة، وذلك بعد نقاش طويل بينه وبين الصحابة في هذا الأمر على أن يختاروا من بينهم الخليفة على المسلمين، وكان هؤلاء الستة هم:

عثمان بن عفان

وعلي بن أبي طالب

والزبير بن العوام

وطلحة بن عبيد الله

وسعد بن أبي وقاص

وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعا.

وجميعهم من العشرة المبشرين بالجنة، أما باقي العشرة المبشرين بالجنة، فقد توفي منهم أبو بكر، وأبو عبيدة بن الجراح، وها هو عمر، ولم يبق إلا سعيد بن زيد، وقد استثناه عمر رضي الله عنه؛ لأنه ابن عمه ورعًا وتقوى، ولئلا يقال: إنه أعطاها لقرابته. وهذا مع ما له من الفضل في الإسلام، وجعل معهم عبد الله بن عمر، ولكنه لا يولى من الأمر شيء، وجعل أبا طلحة الأنصاري مع خمسين من الصحابة حراسة لهؤلاء الستة الذين جلسوا في بيت المسور بن مخرمة، أو في بيت السيدة عائشة، أو في بيت المال حتى يقرورا في هذا الشأن العظيم، وقد استقروا في نهاية الأمر على ثلاثة هم: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا.

فقال عبد الرحمن بن عوف إنه ينخلع من هذا الأمر على أن يرجع إليه القول في تولية من يراه أصلح لهذا الأمر فوافقوا على ذلك، فأخذ البيعة والعهد عليهم إن ولى عثمان بن عفان أن يعدل بين الناس، وكذلك علي، وإن ولى أحدهما، فإن على الآخر أن يسمع له ويطيع، ثم انطلق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في جهد جهيد، وظل ثلاثة أيام يبحث في الأمر، ويسأل الناس فرادى، ومثنى، ومجتمعين، الكبار والضغار حتى الغلمان، سأل الأحرار والعبيد، سأل الركبان الذي يأتون إلى المدينة للزيارة، وسأل الأعراب الذين يمرون بالمدينة، ووصل في سؤاله إلى النساء، وبعد هذا الجهد العظيم يقول رضي الله عنه:

فلم أجد في المدينة أحدا إلا ويقدم عثمان بن عفان على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

إلا اثنين فقط هما المقداد بن عمرو، وعمار بن ياسر، وهذا في بعض الروايات، ومن ثم لم يكفر علماء الشيعة هذين الصحابيين.

لم ينم عبد الرحمن بن عوف في هذه الأيام الثلاثة، وكان يقضيها بين البحث وسؤال الناس، وبين الصلاة، والاستخارة والدعاء، حتى كانت رابع ليلة، فأتى إلى باب المسور بن مخرمة ابن أخته فقال: أنائم يا مسور، والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث، اذهب فادع إلي عليا وعثمان.

فقال المسور: فقلت بأيهما أبدأ؟

فقال: بأيهما شئت.

قال: فذهبت إلى علي فقلت: أجب خالي.

فقال: أمرك أن تدعو معي أحد؟

فقلت: نعم.

قال: من؟

قلت: عثمان بن عفان.

قال: بأينا بدأ؟

فقال: لم يأمر بشيء من ذلك، بل قال: بأيهما شئت. فجئت إليك أولا.

فقام معه، يقول:

فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس عليّ، حتى دخلت، فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي علي سواء، فقام معه، فلما انصرفت، أقبل عبد الرحمن بن عوف على علي وعثمان فقال:

إن قد سألت الناس عنكما، فلم أرى أحدا يعدل بكما أحدا، ثم أخذ العهد عليهما مرة أخرى بأن يعدل من يولى منهما، ولأن ولي عليه ليسمعن، وليطيعن، ثم خرج عبد الرحمن إلى المسجد، وقد لبس العمامة التي عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهداه هذه العمامة، فلبسها، وتقلد سيفا وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين، والأنصار، ونودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وتراصوا في المسجد، وكثروا حتى أن عثمان رضي الله عنه لم يجد مكانا يجلس فيه، وهو أحد المرشحين للخلافة، فوقف على أطراف المسجد، وكان حييا شديد الحياء، ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف وقوفا طويلا، ودعا دعاء طويلا لم يسمعه أحد، ثم قال:

يا أيها الناس إني سألتكم سرا وجهرا بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بهذين الرجلين أحدا، إما علي، وإما عثمان، فقم إليّ يا علي، فقام رضي الله عنه ووقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، وقال له:

هل أنت مبايعي على كتاب الله، وسنة نبيه، وفعل أبي بكر، وعمر؟

فقال علي: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي.

قال فأرسل يده، ثم قال:

قم إليّ يا عثمان.

فأخذ بيده فقال له:

هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه، وفعل أبي بكر وعمر؟

فقال: اللهم نعم.

فقال فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد، ويده بيد عثمان بن عفان وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، إني خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان،

قال: وازدحم الناس جميعا يبايعون عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وكان علي بن أبي طالب- كما تقول إحدى الروايات- أول من بايع عثمان رضي الله عنه، وقعد عبد الرحمن في الدرجة الثالثة، وجلس عثمان في الدرجة الثانية، ثم قام وخطب في الناس خطبته الأولى وهي بالطبع ليست كما ذكر الواقدي.

يعلق ابن كثير على هذا الأمر فيقول: أما ما ذكره علماء الشيعة والرافضة ومن والاهم من أن عليا بعد ذلك قال لعبد الرحمن بن عوف: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك، وليشاورك كل يوم في شأنه.

فهذه كلها أباطيل ولم يرد لها أصل.

وقد بويع لعثمان رضي الله عنه وأرضاه في يوم 3 من شهر محرم سنة 24 هـ، وبدأ عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه من هذه السنة، واستمر حتى 35 هـ، وهو عهد مليء بالكثير من الأحداث.

بدايات الفتنة

بدايات الفتنة

الكاتب موقع قصة الإسلام

مقدمة
بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجّه عثمان رضي الله عنه الجيوش لاستكمال فتوحات فارس، فوجّه جيشًا لمنطقة (الري) شرق بحر قزوين، وكان على رأس هذا الجيش أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وفتحها أبو موسى الأشعري، وقام بعد ذلك بغاراتٍ على بعض القلاع، والحصون الرومية.

ومن الأحداث المهمة أن عثمان رضي الله عنه، ولّى سعد بن أبي وقّاص على الكوفة سنة 24 هـ، وكانت هذه المدينة دائمة الفتن، والثورات على أمرائها، وفي سنة 25 هـ ثار أهل الكوفة من جديد على سعد بن وقاص.

فعزل عثمان سعدًا، وولّى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم فتحت الجيوش الإسلامية في عهد عثمان رضي الله عنه أذربيجان، وأرمينية غرب بحر قزوين على يد الوليد بن عقبة رضي الله عنه، وفي سنة 26 هـ، قام عثمان رضي الله عنه بتوسعة المسجد الحرام، وفتحت أيضًا في هذه السنة سابور في شرق فارس، وكانت من المناطق الغنية الكثيرة السكان، حتى أن خراجها كان ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف درهم في السنة، وبدأ الخير يعم على المسلمين بصورة كبيرة، وفي سنة 27 هـ فُتحت أرجان، وهي من بلاد الفرس، وعزل عثمان رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن ولاية مصر، وكان واليها من قِبَل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك لما لانت قناته مع أهل الكتاب الذين قلّلوا من الجزية التي كانوا يدفعونها، ووقفت الفتوحات عند برقة وهي تابعة لـ(ليبيا) حاليًا، وتولى مصر عبد الله بن أبي سرح، فعادت الجزية كما كانت في بداية عهد عمرو بن العاص، وواصل عبد الله بن سرح الفتوحات متجهًا نحو الغرب، واتجه إلى ما يسمّى الآن بتونس، وكان على رأس الجيوش عقبة بن نافع رضي الله عنه.

آثار خلافة عثمان بن عفان
في سنة 28 هـ فُتحت قبرص، وكان هذا تقدمًا خطيرًا للدولة الإسلامية، وذلك لأن المسلمين لم يكن لهم أسطولًا بحريًا، ولم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موافقًا على غزو البحر، وكان يخشى على المسلمين منه، لكنّ معاوية رضي الله عنه أصرّ على هذا الأمر، وعرضه على عثمان رضي الله عنه مرة بعد مرة، حتى اقتنع به عثمان رضي الله عنه، وقام الأسطول البحري الإسلامي الأول بفتح قبرص، وعلى رأس هذا السطول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعبد الله بن أبي سرح من مصر، وحاصرا قبرص، وفتحت، واستكلمت فتوحات إفريقية، ووطدت أركان الدولة الإسلامية في منطقة شرق وشمال إفريقية.

في سنة 29 خالفت (اصطخر) وهي إحدى بلاد فارس، ونقضت عهدها مع المسلمين، فأرسل إليها جيشًا وفُتحت مرة أخرى.

كما تمت توسعة المسجد النبوي مرة ثانية في هذا العام، وفي العام 30 هـ فتحت خراسان، ونيسابور، وقوص، وكثر الخراج بصورة عظيمة، وثار أهل الكوفة كالعادة على الوليد بن عقبة، وعُزلَ وتولّى سعيد بن العاص.

يقدّم الحسن البصري رضي الله عنه وأرضاه، وهو أحد التابعين المعاصرين لهذه الفترة، شهادةً للتاريخ على هذه الفترة من حياة عثمان رضي الله عنه وأرضاه فيقول:

أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلّما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون خيرًا، يُقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم.

فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على أرزاقكم.

فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل.

فالأعطيات جارية، والأرزاق دارّة، والعدو متّقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمنًا ومن لقيه فهو أخوه.

إذن فقد كان المسلمون على درجة عالية من الرخاء، لم يصلوا إلى هذه الدرجة من قبل، ويقوم عثمان رضي الله عنه في هذه الفترة بعمل من أعظم أعماله؛ وهو جمع القرآن على مصحف واحد، وكان سبب هذا الأمر أن المسلمين في فتوحات الشام، وفي الأراضي الرومية كان يأتون من الشام ومن العراق، وكان ممن حضر هذه الفتوحات حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وقد لاحظ الاختلاف الشديد في القراءات ما بين الناس، فكلٌ منهم يقرأ بقراءة، فأهل الشام يقرءون على قراءة المقداد بن عمرو، وأبي الدرداء رضي الله عنهما، وأهل العراق يقرءون على قراءة عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب رضي الله عنهما، حتى أن بعض الجهّال ممن لا يعرفون أن القرآن أنزل على سبعة أحرف بدأ كل منهم يخطّأ الآخر، بل وصل الأمر إلى درجة التكفير.

فعاد حذيفة بن اليمان إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه وقال له: أدرك الأمة.

فاستدعى عثمان رضي الله عنه زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكان قد جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وطلب منه عثمان رضي الله عنه أن يأتي بالصحائف التي كان قد جمعها، وكانت هذه الصحائف بداية عند أبي بكر الصديق، ثم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعند وفاته ترك هذه الصحائف عند ابنته أم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها وعن أبيها، وذهب بالفعل وأتى بهذه الصحائف، وكوّن عثمان رضي الله عنه مجموعة من أربعة هم: سعيد بن العاص الأموي، زيد بن ثابت الأنصاري، عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وكلفهم بعمل بعض النُّسخ من القرآن الكريم على القراءة التي كتبها زيد بن ثابت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو لم يضف قراءة جديدة، ولكنه جمع الناس على ما جمعهم عليه أبو بكر رضي الله عنه من قبل، فكان الذي يُملِي هو سعيد بن العاص رضي الله عنه، وكان الذي يكتب هو زيد بن ثابت، وكان عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث رضي الله عنهما يحضران الإملاء، والكتابة، ويتابعان الأمر فكتبوا المصحف كاملًا، ونسخوا منه سبع نسخ، وقام عثمان رضي الله عنه بحرق باقي الكتابات الأخرى الموجودة عند بقية الصحابة، والتي يخالف ترتيبها الترتيب الذي عُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأخيرة، وكان هذا مجهودًا شاقًا وعسيرًا فقد كان حجم الصفحة من المصحف الذي أمر عثمان رضي الله عنه بنسخه سبع نسخ كانت ما بين 80 و 60 سم، وكانت النسخة الواحدة يحملها المجموعة من الرجال، ووجّه عثمان رضي الله عنه إلى كل قطر بنسخة من هذا المصحف، فأبقى نسخة بالمدينة المنورة، وأرسل نسخة إلى مكة، والثالثة إلى مصر، والرابعة إلى الشام، والخامسة إلى الكوفة، والسادسة إلى البصرة، والسابعة إلى اليمن، وبهذا تم جمع المسلمين على مصحف واحد، وهو المُسمّى بالمصحف العثماني، وعثمان رضي الله عنه لم يكتب فيه حرفًا واحدًا وإنما أمر بجمعه، ونسخه كما رأينا.

في سنة 31 هـ قام المسلمون بموقعة بَحْرية شهيرة هي موقعة (ذات الصواري).

وفي سنة 34 هـ توفي الكثير من أعلام الصحابة، وكأن الله أراد أن يقيهم شر حضور الفتنة، فكان ممن توفي في هذه السنة: العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو ذرّ رضي الله عنهم جميعًا، وزيد بن عبد الله بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه، وهو الذي رأى في منامه الأذان وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره برؤياه، فأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم.

كما فُتحت أجزاء من بيزنطة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ولكن كان إتمام فتحها في عهد معاوية رضي الله عنه.

وفي سنة 33 هـ فتحت الحبشة - والمقصود أجزاء من السودان -، وفي سنة 34 هـ حدثت ثورة أخرى بالكوفة على سعيد بن العاص، وتولّى الأمر فيها أبو موسى الأشعري برغبة أهل الكوفة، ووافقهم عثمان رضي الله عنه على ذلك وسنرى تفاصيل هذا الأمر إن شاء الله.

وفي هذه السنة 34 هـ بدأت مقدمات الفتنة الكبرى تأخذ شكلًا واضحًا والتي استُشهد على أثرها في سنة 35 هـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لينهي حياة حافلة بالعمل الخالص لله تعالى، والذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم من أجله بالجنة.

ذو النورين كان على يقين بما سيحدث له
لا شك أن قتل عثمان رضي الله عنه له تفاصيل كثيرة، ولكن ما نشير إليه الآن هو أنّ عثمان رضي الله عنه كان يعلم أنه سيُقتل في هذه الفتنة، وذلك ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوءته بهذا الأمر، روى البخاري بسنده عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ:

اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ.

وفي البخاري أيضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ.

فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ.

فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ، فَقَالَ لِي:

افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ.

فَإِذَا عُثْمَانُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وروى ابن ماجة والترمذي والإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ حَدَّثَهُ قَالَ:

كَتَبَ مَعِي مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ، قَالَ:

فَقَدِمْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَدَفَعْتُ إِلَيْهَا كِتَابَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَتْ:

يَا بُنَيَّ أَلَا أُحَدِّثُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

قُلْتُ: بَلَى.

قَالَتْ:

فَإِنِّي كُنْتُ أَنَا، وَحَفْصَةُ يَوْمًا مِنْ ذَاكَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَبْعَثُ لَكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ:

لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا.

فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَا أُرْسِلُ لَكَ إِلَى عُمَرَ.

فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ:

لَا.

ثُمَّ دَعَا رَجُلًا، فَسَارَّهُ بِشَيْءٍ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ أَقْبَلَ عُثْمَانُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ:

يَا عُثْمَانُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَعَلَّهُ أَنْ يُقَمِّصَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ. ثَلَاثَ مِرَارٍ. صححه الألباني.

وروى الترمذي بسنده عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّ خُطَبَاءَ قَامَتْ بِالشَّامِ وَفِيهِمْ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ آخِرُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ: لَوْلَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قُمْتُ، وَذَكَرَ الْفِتَنَ، فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ:

هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى.

فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ:

فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَقُلْتُ: هَذَا؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ورواه ابن ماجه وصححه الألباني.

فهذه كلها بشارات لعثمان رضي الله عنه أن هذه الفتنة سوف تحدث ويكون فيها عثمان رضي الله عنه على الحق، وسيُقتل فيها رضي الله عنه، ويدخل على أثرها الجنة، وستكون لهذه البشارات من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأثر في سير الأحداث بعد ذلك كما سنرى في تفاصيل الفتنة.

إذن هذا هو ما حدث في فترة خلافة عثمان رضي الله عنه من الآثار، وكانت من الفترات المهمة جدًا في تاريخ الدولة الإسلامية.

ومع هذا الخير الذي كان عليه عثمان رضي الله عنه، ومع هذه الأفضال والمحامد، والآثار العظيمة، ومع هذا الخير الذي عمّ على جميع المسلمين، ومع هذه الأرزاق الدارّة التي لمسها المسلمون، حتى كان يُنادى على المسلمين أن اغدوا على أعطياتكم، فقد كان عهدًا عظيمًا من الرخاء، مع هذا كله تحدث الفتنة.

ظهور ابن سبأ وبداية الفتنة
ما بين سنة 30 إلى 31 هـ، ظهر في اليمن عبد الله بن سبأ، وكانت أمه جارية سوداء، ومن ثَمّ لُقّب بابن السوداء، وكان يهوديًا، وعاش في اليمن فترة طويلة، وكانت اليمن قبل الإسلام مقاطعة فارسية، فتعلّم عبد الله بن سبأ الكثير عن المجوسية، وأراد هذا اليهودي أن يطعن في الإسلام والمسلمين، وبدأ بالتفكير في عمل هذه الفتنة، فدخل في الإسلام ظاهرًا في بداية عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبدأ يتنقل في البلاد حتى ينشر بعض الأفكار السامّة، والطاعنة في الإسلام، فذهب إلى الحجاز، ولما لم يجد صدى كافيًا انطلق إلى العراق، فذهب إلى البصرة، وكانت موطنًا للفتن، ووقع هناك على رجل يُسمّى حكيم بن جبلة، وكان من المسلمين، ولكنه كان لصًّا يغير على أهل الذمة، وقد حدد الخليفة إقامته بألا ينتقل من البصرة، فقد كان رجلًا سيئ الخلق، وبدأ ابن سبأ يلقي في روعه بعض الأفكار الجديدة على الإسلام، والمقتبسة من اليهودية، والمجوسية، وخرجت عقائد الشيعة من هذه الأفكار التي جاء بها عبد الله بن سبأ، وقد انقسم الشيعة إلى فرق كثيرة، فمنهم من أخذ من عبد الله بن سبأ كل ما قاله، وهم من يُسمّون الآن بالسبئية، ومنهم من أخذ منه البعض، ومنهم من أخذ القليل منه، ولكن على العموم فالشيعة جميعًا أخذوا من هذه الأفكار.

تبعه حكيم بن جبلة، وبعض من قبيلته، وبعض من أصدقائه، وكان كل هذا الأمر يدور سرّا، فهو لا يجرؤ على الجهر به ابتداءً، ثم انتقل من البصرة إلى الكوفة، وهي موطن للفتن، والثورات أيضًا، واستجاب له من أهل الكوفة أفراد كثيرون، ولكن سرّا ومنهم على سبيل المثال الأشتر النخعي، وهذا أمر غريب، فقد كان الأشتر من المجاهدين في اليرموك، والمواقع التي جاءت بعدها، ولكن الله تعالى يثبّت من يشاء، وقد استجاب الأشتر لابن سبأ إما عن جهلٍ، وإما عن رغبةٍ في الرئاسة أو غير ذلك، وكان الأشتر ذو مكانة ورأي في قومه، وبدأ يدعو الناس إلى ما هو عليه من أفكار، ويفسر بعض المؤرخين سبب انضمام الأشتر إلى أصحاب الفتنة بتفسيرين يناقض كل منهما الآخر؛ فالأول أنه كان من المغالين المتشددين في الدين، ويبالغ في بعض الأمور التي كان يظن أنها خطأ، ومن ثَمّ يتشدد لها، والأمر الثاني أنه كان محبًا للرئاسة، والسيطرة، وقام بالمشاركة في هذه الفتنة حتى يُمكّن له ويصل إلى ما يريد.

انتقل ابنُ سبأ إلى مصر، ووجد في مصر مناخًا مناسبًا لأفكاره؛ لأن معظم المجاهدين خرجوا إلى الفتوحات في ليبيا، وآخرين في السودان ومن كان موجودًا إنما هم قلة من المسلمين، فاستطاع ابن سبأ أن يجمع حوله قلة من الناس، واستقرّ في مصر، ولم يكن استقراره أمرًا مقصودًا، لكنه كان بطبيعته يستقرّ في كل بلد ينزل فيها مدة، ثم يغادرها إلى غيرها، فلما كان بمصر كان قد قرب عهد الفتنة فخرج من مصر.

أفكار ابن سبأ:

كانت أفكار ابن سبأ تهدف لهدم الإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم ومن هذه الأفكار:

1- القول بعقيدة الرجعة: وهي من الثوابت عند الشيعة، وأصلها في المجوسية، وقد وُجدت في اليهودية افتراءً على الله تعالى، فاليهود يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، وقال لهم ابنُ سبأ: إذا كان عيسى بن مريم سيرجع فكيف لا يرجع محمد صلى الله عليه وسلم، فمحمد صلى الله عليه وسلم سيرجع، وتمادى الشيعة في الأمر، وقالوا ليس محمدًا فحسب بل علي بن أبي طالب وغيره.

لكن أصل هذه العقيدة كما نرى نابعة من المجوسية، ومن افتراء اليهود وكذبهم، وكان ابن سبأ يخاطب الجهّال فيصدقونه، وقد سأله البعض عن دليلٍ على رجعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يقول الله تعالى:

[إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ] {القصص:85}.

وقال إن هذا المعاد في الدنيا، فخدع به بعض الجهال.

2- عقيدة الوصاية: قال ابن سبأ إن أمر النبوة منذ آدم حتى محمد صلى الله عليه وسلم بالوصاية، أي أن كل نبي يوصي للنبي الذي بعده- وهذا تخريف منه وتحريف- وكان هناك ألف نبي وكل منهم أوصى لمن بعده، فهل يأتي محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الأنبياء، ولا يوصي بالأمر من بعده لأحد، إذن أوصى محمد صلى الله عليه وسلم إلى أحد الناس، هذا في البداية، ثم بدأ في البحث عن رجل إذا تكلم عنه أمام الناس يخجل الناس أن يردوا كلامه، فقال:

إن محمدا صلى الله عليه وسلم أوصى بالأمر لعلي وقد علمت ذلك منه، ووضع حديثا في ذلك يقول- افتراءا على الرسول صلى الله عليه وسلم-:

أنا خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. أو الأولياء.

وهو حديث موضوع كما قال الألباني، وأضاف الشيعة بعد ذلك مجموعة من الأوصياء، ومن هنا ظهرت عقيدة الوصاية.

ثم قال ابن سبأ لأتباعه:

اطعنوا في الأمراء، وبدأ يراسل أهل الأمصار بسلبيات افتراها على الأمراء الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه، من أمثال عبد الله بن أبي سرح، والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، وقال لأتباعه:

إذا قمتم بالدعوة إلى هذا الأمر في الناس فقولوا: إنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.

حتى لا ينكر قولكم.

أتباع ابن سبأ

اتبع ابن سبأ مجموعة من الطوائف، فمنهم الذين هم على شاكلته ممن دخلوا في الإسلام ظاهرا، وأبطنوا الكفر والنفاق، وطائفة أخرى يرغبون في الإمارة والرئاسة والسيطرة، ولم يولهم عثمان رضي الله عنه، إما لسوء خلقهم، أو لوجود من هو أفضل منهم، وطائفة ثالثة من الموتورين الذي أقام عثمان رضي الله عنه الحد على أحدهم، أو على قريب لهم، فقاموا حمية له، وطائفة أخرى من جهال المسلمين الذين ينقصهم العلم، فتبعوا ابن سبأ بدافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليقتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ثم بدأ الطعن في الخليفة نفسه، وأعد ابن سبأ قائمة بالطعون في عثمان رضي الله عنه، وأرسلها إلى الأمصار والبلدان، ووصل الأمر إلى أمراء المسلمين، وإلى الخليفة رضي الله عنه، فأرسل مجموعة من الصحابة يفقهون الناس، ويعلمونهم، ويدفعون عنهم هذه الشبهات، فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعمار بن ياسر إلى مصر، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وكان أهل الشام أقل الناس تأثرا بهذه الفتنة، وكان معاوية رضي الله عنه يسوس الناس بحكمة، وحلم وكان الناس يحبونه حبا شديدا، وقد رفض الناس دعوة ابن سبأ عندما عرضها عليهم، فذهب إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه وهو من كبار الصحابة ومن شديدي الزهد كما يعرف ذلك من يطالع سيرته، ولما مر به عبد الله بن سبأ في طريقه قال له: يا أبا ذر إن أهل الشام ينغمسون في الدنيا وفي الملذات وينشغلون عن أمر الدين.

محاولا بهذا الكلام إثارته، فذهب أبو ذر إلى معاوية وقال له:

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {التوبة:34}.

متأولا معنى الآية أنه لا يجوز للإنسان أن يكنز أكثر من قوت يوم واحد، وهذا الفهم يخالف أصول الإسلام في هذه الناحية، فقال له معاوية:

إنك تحمل الناس على أمر لا يطيقونه، ولم يقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصر أبو ذر على رأيه، فأرسل معاوية إلى عثمان رضي الله عنه، فاستدعى عثمان رضي الله عنه أبا ذر رضي الله عنه، ودار بينهما حوار سنذكر تفاصيله فيما بعد، وكان هذا من المطاعن على عثمان رضي الله عنه التي تبع ابن سبأ فيها الكثير.

وذهب ابن سبأ أيضا إلى عبادة بن الصامت، وحاول معه مثل هذا الأمر، فقبض عليه، وأتى به إلى معاوية بن أبي سفيان، وقال له:

هذا الذي أثار عليك أبا ذر الغفاري.

فكلمه معاوية رضي الله عنه، وكان معاوية حليما شديد الحلم، فرجع ابن سبأ عن قوله ظاهرا، ولم يطمئن إليه معاوية، فأخرجه من بلاده فذهب إلى مصر بعد ذلك.

أما مجموعة الصحابة الذين أرسلهم عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار ليعلمونهم ويدرءون عنهم هذه الشبهات، فقد رجعوا جميعا إلى عثمان رضي الله عنه إلا عمار بن ياسر الذي كان قد ذهب إلى مصر، وكان بها عبد الله بن سبأ، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر، وهم من رءوس الفتنة، فقد جلسوا مع عمار بن ياسر، وأقنعوه ببعض الأفكار، والمآخذ على الأمراء، وعلى عثمان رضي الله عنه، فتأخر عمار بن ياسر عن العودة إلى عثمان رضي الله عنه بالمدينة، فخاف المسلمون أن يكون قد قتل، ولكن جاءهم في هذا الوقت كتاب من عبد الله بن أبي سرح، والي عثمان رضي الله عنه على مصر يخبرهم أن عمار بن ياسر قد استماله القوم، وأرسل عثمان رضي الله عنه إلى عمار بن ياسر رضي الله عنه خطابا يعاتبه فيه، ولما قرأ الخطاب ظهر له الحق، ورجع إلى عثمان رضي الله عنه في المدينة، وتاب بين يديه عن هذا الظن.

ثم ظهرت الفتنة، ولأول مرة بصورة علنية، وكان ذلك في الكوفة سنة 33 هـ، فقد جمع الأشتر النخعي حوله مجموعة من الرجال تسعة أو عشرة، وبدأ يتحدث جهارا نهارا عن مطاعن يأخذها على عثمان رضي الله عنه.

وسمع سعيد بن العاص والي الكوفة من قبل عثمان رضي الله عنه هذا الكلام فنهى الأشتر، ومن معه، ثم أرسل بعد ذلك إلى عثمان رضي الله عنه يخبره بما عليه الأشتر النخعي ومن معه، فأرسل عثمان رضي الله عنه رسالة إلى سعيد بن العاص أن يرسل الأشتر النخعي، ومن معه إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام، وكان معاوية كما ذكرنا حليما شديد الحلم، فقد كانوا يسبونه علنا مرة، والثانية، والثالثة، ويأخذهم باللين والرفق، ولم يحاول معاوية بن أبي سفيان أن يشتد معهم، فأرسلهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والي حمص، وكان كأبيه خالد رضي الله عنه له مخالب كمخالب الأسد شديدا حازما، فعنفهم بشدة ولما ردوا عليه أذلهم ذلا عظيما، وحبسهم فأظهروا توبتهم، فأرسل إلى عثمان رضي الله عنه أن هؤلاء قد تابوا، فأرسل إليه أن يجعل أحدهم يأتيه فأرسل إليه الأشتر النخعي وأعلن توبته على يدي عثمان رضي الله عنه، فرده عثمان إلى الشام، وظل فيها هو ومن معه، وبينما هم في الشام جاءتهم رسالة من رجل يسمى يزيد بن قيس من البصرة أنه سوف يعلن الثورة في البصرة جهرا، وأرسل لهم رسالة يستعين بهم، ولما وقعت الرسالة في أيديهم ترددوا في أمر الثورة، وأصر عليهم الأشتر النخعي، فقيل أنهم رجعوا معه، وقيل لم يرجعوا معه، ولكنه عاد إلى الكوفة، وكما ذكرنا من قبل أنه كان مسموع الكلمة وذا رأي في قومه.

وفي هذا الوقت أرسل عثمان رضي الله عنه إلى ولاته كي يستشيرهم في أمر هذه الفتنة، فأرسل إلى معاوية بن أبي سفيان واليه على الشام، وإلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة، وسعيد بن العاص واليه على الكوفة، وعبد الله بن أبي سرح واليه على مصر، وجاءوا جميعا إلى عثمان رضي الله عنه بالمدينة، وبعد أن عرض عليهم الموقف بدأوا يقولون رأيهم؛ فأشار عبد الله بن عامر أن يشغل الناس بالجهاد حتى لا يتفرغوا لهذه الأمور، وأشار سعيد بن العاص باستئصال شأفة المفسدين وقطع دابرهم، وأشار معاوية رضي الله عنه بأن يرد كل وال إلى مصره فيكفيك أمره، أما عبد الله بن أبي سرح فكان رأيه أن يتألفهم بالمال.

وقد جمع عثمان رضي الله عنه في معالجة هذا الأمر بين كل هذه الآراء، فخرج بعض الجيوش للغزو، وأعطى المال لبعض الناس، وكلف كل وال بمسئوليته عن مصره، ولكنه لم يستأصل شأفتهم.

إلى هذا الوقت لا زال الأمر لم يعلن عدا أمر العشرة الذين كانوا مع الأشتر النخعي في الكوفة، وظهور أمر يزيد بن قيس في البصرة، ورجع الأمراء من عند عثمان رضي الله عنه إلى أقطارهم، وعندما رجع سعيد بن العاص إلى الكوفة وجد أن الأشتر النخعي قد سبقه إليها، وقام بثورة كبيرة بعد أن جمع الجموع، ونشر فيهم الفتنة نشرا عظيما، ومنع دخول سعيد بن العاص الكوفة، وأصروا على أمرهم، وآثر سعيد بن العاص أن يقمع الفتنة فرفض الدخول في قتال معهم ورجع إلى عثمان رضي الله عنه، وأخبره بما حدث، وآثر عثمان رضي الله عنه السلامة في هذه البلاد التي تدير وسط وشمال فارس وارتضى أهل الكوفة أن يولى عليهم أبو موسى الأشعري، ووافقهم عثمان رضي الله عنه على ذلك، وكان ذلك سنة 34 هـ، وبدأ الطعن يكثر في عثمان رضي الله عنه، وتنتشر أفكار ابن سبأ في البلاد، وأصبح للفتنة جذور في بلاد كثيرة، فكان يزيد بن قيس في البصرة، والأشتر النخعي في الكوفة، وكذا حكيم بن جبلة، وعبد الله بن سبأ رأس الفتنة في مصر، ومعه كنانة بن بشر وسودان بن حمران.

وأراد رءوس الفتنة أن يشعلوا الأمر أكثر وأكثر، حتى يجتثوا الدولة الإسلامية من جذورها، فبدءوا يكثرون الطعن على عثمان، ويكتبون هذه المطاعن المكذوبة، والمفتراة ويرسلونها إلى الأقطار موقعة بأسماء الصحابة افتراء على الصحابة، فيوقعون الرسائل باسم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والسيدة عائشة.

وكان من الصعب نظرا لصعوبة الاتصال وتنائي الأقطار أن يتم تنبيه الناس إلى كذب هذه الرسائل، وأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكتبوا هذه المطاعن ولم يوقعوا عليها.

ومن ثم انقاد بعض الناس لهذه الفتنة، بينما انتظر آخرون حتى يتثبتوا من الأمر نظرا لخطورته.

وتلك المطاعن التي افتراها من أشعل هذه الفتنة هي الموجودة الآن في كتب الشيعة، وعندما يطعنون ويسبون عثمان رضي الله عنه يذكرون هذه المطاعن الذي ذكرها هؤلاء المارقون عن الإسلام، ويضعونها على أنها حقائق، وقد انساق ورائهم بعض الجهال من المسلمين كـزاهية قدورة التي ذكرت هذه المطاعن على أنها حقائق، واتهمت بها عثمان رضي الله عنه والسيدة عائشة رضي الله عنها، وذكرت أن السيدة عائشة ألبت الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكأن الرسائل التي أرسلت من أصحاب الفتنة رسائل حقيقية أرسلتها السيدة عائشة، يقول ابن كثير:

قال أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة عن مسروق قال:

قالت عائشة حين قتل عثمان:

تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم قتلتموه.

وفي رواية: ثم قربتموه، ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش؟

فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه.

فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.

قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها، وهذا إسناد صحيح إليها.

وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم الله، زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه.

التهم والمطاعن المفتراة على عثمان
ما هي المطاعن التي أخذها هؤلاء المارقون على الإسلام على عثمان رضي الله عنه، والتي لا زالت تتردد على ألسنة بعض المسلمين، وبعض المذاهب إلى هذا الوقت:

التهمة الأولى: ضربه لابن مسعود حتى كسر أضلاعه كما يقولون، ومنعه عطاءه.

التهمة الثانية: ضربه عمار بن ياسر حتى فتق أمعاءه.

التهمة الثالثة: ابتدع في جمعه للقرآن وحرقه للمصاحف.

التهمة الرابعة: حمى الحمى، وهي مناطق ترعى فيها الإبل، وقالوا إنه جعل إبله فقط هي التي ترعى فيها، وفي الحقيقة لم تكن هذه إلا إبل الصدقة.

التهمة الخامسة: أنه أجلى أو نفى أبا ذر الغفاري إلى الربذة، وهي منطقة في شمال المدينة.

التهمة السادسة: أنه أخرج أبا الدرداء من الشام.

التهمة السابعة: أنه رد الحكم بن أبي العاص بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التهمة الثامنة: أنه أبطل سنة القصر في السفر، وذلك لأنه أتم الصلاة في (منى) لما ذهب للحج.

التهمة التاسعة: أنه ولى معاوية بن أبي سفيان وكان قريبا له.

التهمة العاشرة: ولى عبد الله بن عامر على البصره وهو قريب له.

التهمة الحادية عشر: أنه ولى مروان بن الحكم وكان قريبا له.

التهمة الثانية عشر: أنه ولى الوليد بن عقبة على الكوفة وهو فاسق.

التهمة الثالثة عشر: أنه أعطى مروان بن الحكم خمس غنائم إفريقية.

التهمة الرابعة عشر: كان عمر يضرب بالدرة- عصا صغيرة- أما هو فيضرب بعصا كبيرة.

التهمة الخامسة عشر: علا على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل عنها أبو بكر وعمر.

التهمة السادسة عشر: لم يحضر بدرا.

التهمة السابعة عشر: انهزم وفر يوم أحد.

التهمة الثامنة عشر: غاب عن بيعة الرضوان.

التهمة التاسعة عشر: لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان، وكان عبيد الله بن عمر قد تيقن من أن الهرمزان قد شارك في الإعداد لقتل أبيه عمر بن الخطاب فقتله.

التهمة العشرون: أنه كان يعطي أقرباءه، ولا يعطي عامة المسلمين.

وهذه التهم كلها جاءت في رواية واحدة، بينما تضيف روايات أخرى تهما أخرى، وهي موجودة إلى الآن ليس في كتب الشيعة فحسب، بل في كتابات الجهال من المسلمين الذين ينقلون عن روايات الشيعة الموضوعة دون أن يعلموا أنها موضوعة، أو ممن لا يريد لدولة الإسلام أن تقوم، مدعيا أن دولة الإسلام إذا قامت سوف يحدث مثل هذا الأمر، فقد حدث ذلك بين الصحابة أنفسهم، فكيف تقوم دولة الإسلام في عهدنا نحن.

وانتشرت هذه التهم المفتراة في الأمصار والبلاد، ولم يكن محفوظا من هذا الأمر غير بلاد الشام، وبدأ الناس يجهزون أنفسهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالة عثمان بن عفان عن الحكم لأنه فعل هذه الأمور.

نسأل الله تعالى أن يعيننا على الدفاع عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ونفي هذه التهم المنسوبة إليه كذبا وافتراء، وأن ننشر هذا الدفاع بين المسلمين، وننشره بين الشيعة إذا استطعنا، ونعرف الناس بالحقائق من خلال التاريخ الصادق الصحيح النقل، والعقل والمنطق، والفقه السليم، ونسأل الله أن يتقبل منا جميعا.

الدفاع عن عثمان رضي الله عنه

الدفاع عن عثمان رضي الله عنه

الكاتب موقع قصة الإسلام

المطاعن التي أخذها المتمردون على عثمان رضي الله عنه
ما هي المطاعن التي أخذها هؤلاء المارقون على الإسلام على عثمان رضي الله عنه، والتي لا زالت تتردد على ألسنة بعض المسلمين وبعض المذاهب إلى هذا الوقت:

التهمة الأولى: ضرْبه لابن مسعود حتى كسر أضلاعه - كما يقولون - ومنعه عطاءه.

التهمة الثانية: ضرْبه عمار بن ياسر حتى فتق أمعاءَه.

التهمة الثالثة: ابتدع في جمْعه للقرآن وحرْقه للمصاحف.

التهمة الرابعة: حَمَى الحِمَى- وهي مناطق ترعى فيها الإبل- وقالوا إنه جعل إبله فقط هي التي ترعى فيها، وفي الحقيقة لم تكن هذه إلا إبل الصدقة.

التهمة الخامسة: أنه أجلى أو نفى أبا ذرٍّ الغفاري إلى الربذة، وهي منطقة في شمال المدينة.

التهمة السادسة: أنه أخرج أبا الدرداء من الشام.

التهمة السابعة: أنه ردّ الحكم بن أبي العاص بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التهمة الثامنة: أنه أبطل سنة القصر في السفر، وذلك لأنه أتم الصلاة في (منى) لما ذهب للحج.

التهمة التاسعة: أنه ولّى معاوية بن أبي سفيان وكان قريبًا له.

التهمة العاشرة: ولّى عبد الله بن عامر على البصره وهو قريب له.

التهمة الحادية عشر: أنه ولّى مروان بن الحكم وكان قريبًا له.

التهمة الثانية عشر: أنه ولّى الوليد بن عقبة على الكوفة وهو فاسق.

التهمة الثالثة عشر: أنه أعطى مروان بن الحكم خمس غنائم إفريقية.

التهمة الرابعة عشر: كان عمر يضرب بالدرة- عصا صغيرة- أما هو فيضرب بعصا كبيرة.

التهمة الخامسة عشر: علا على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل عنها أبو بكر وعمر.

التهمة السادسة عشر: لم يحضر بدرًا.

التهمة السابعة عشر: انهزم وفرّ يوم أحد.

التهمة الثامنة عشر: غاب عن بيعة الرضوان.

التهمة التاسعة عشر: لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان، وكان عبيد الله بن عمر قد تيقن من أن الهرمزان قد شارك في الإعداد لقتل أبيه عمر بن الخطاب فقتله.

التهمة العشرون: أنه كان يعطي أقرباءه، ولا يعطي عامة المسلمين.

وهذه التهم كلها جاءت في رواية واحدة، بينما تضيف روايات أُخرى تهمًا أخرى، وهي موجودة إلى الآن ليس في كتب الشيعة فحسب، بل في كتابات الجهّال من المسلمين الذين ينقلون عن روايات الشيعة الموضوعة دون أن يعلموا أنها موضوعة، أو ممن لا يريد لدولة الإسلام أن تقوم، مدّعيًا أن دولة الإسلام إذا قامت سوف يحدث مثل هذا الأمر، فقد حدث ذلك بين الصحابة أنفسِهم، فكيف تقوم دولة الإسلام في عهدنا نحن.


تهمة الضرب لابن مسعود وعمار
- أما بالنسبة للتهمة الأولى، وهو الزعم بأن عثمان ضرب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما حتى كسر أضلاعه، ومنعه عطاءه، فهذه الرواية مختلقة، ليس لها أصل، وعندما بُويع عثمانُ رضي الله عنه بالخلافة قال عبد الله بن مسعود: بايعنا خيرنا ولم نأل.

فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أن خير الأمة في هذا الوقت هو عثمان رضي الله عنه، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واليًا لعثمان رضي الله عنه على بيت مال الكوفة، وكان والي الكوفة في ذلك الوقت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد حدث خلاف بينهما بسبب أن سعدًا رضي الله عنه استقرض مالًا من بيت المال، ولم يردّه في الموعد المحدد، فحدثت المشادة بينهما بسبب هذا الأمر، وبعدها ثار أهل الكوفة كعادتهم مع كل الولاة على سعد بن أبي وقاص، مع ما له من المكانة في الإسلام، فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وخال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزل عثمان رضي الله عنه سعدًا من ولاية الكوفة، وأقرّ على بيت المال عبد الله بن مسعود، فلما أراد عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف واحد اختار رضي الله عنه لهذا الأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قد اختاراه من قبل لجمع القرآن في المرة الأولى، وذلك لأن زيدًا رضي الله عنه هو الذي استمع العرضة الأخيرة للقرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الصحف الأخرى تكتب تباعًا كلما نزل من القرآن شيءٌ كُتب فيها.

والقضية أنه كان لعبد الله بن مسعود مصحف يختلف في ترتيبه عن مصحف زيد بن ثابت رضي الله عنهما، ومن يرجع للروايات التي تروى عن مصحف عن عبد الله بن مسعود يجد أن ترتيب السور يختلف كثيرًا، وترتيب الآيات أيضًا داخل السور يختلف أحيانًا، وبعض الكلمات مختلفة أيضًا، بل إن بعض السور ليست موجودة أصلًا في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كسورة الفاتحة والمعوذتين، ولهجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من هزيل، وليست من قريش، وقد كان الأمر أن تكون كتابة المصحف على الاتفاق، وعند الاختلاف يُرجع إلى لهجة قريش؛ لأن القرآن نزل بلسانها، فلما علم عبد الله بن مسعود أن القرآن سيجمع على قراءة ثابت، وأن مصحفه سوف يحرق غضب غضبًا شديدًا ووقف على المنبر في الكوفة وقال: [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ ] {آل عمران:161}.

وإني غال مصحفي فهو رضي الله عنه يتأول الآية، وإنما الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، وهو محرم إجماعا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، ولكن عبد الله بن مسعود يريد أن يقول أنه سيحتفظ بمصحفه هذا ولن يوافق على حرقه ليأتي به يوم القيامة، وقد كان يريد رضي الله عنه أن يكون من الفريق المكلف بكتابة المصحف، لأنه كان ممن أثنى على قراءتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا باتفاق ولكن كانت لهجته- كما ذكرنا- تختلف عن لهجة قريش، ورخص له النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة بلهجته، ولكن الأمر الآن يتجه إلى جمع الناس على مصحف واحد، ويجب أن يكون باللسان الذي نزل به القرآن، وهو لسان قريش، فلما فعل ذلك عبد الله بن مسعود أجبره عثمان رضي الله عنه على حرق مصحفه، فعاد إلى المدينة يناقش عثمان رضي الله عنه والصحابة جميعا في هذا الأمر، واجتمع كبار الصحابة على عبد الله بن مسعود، وأقنعوه بالأمر، وأن هذا الأمر فيه الخير للمسلمين، فلما علم ذلك رجع عن رأيه، وتاب عنه بين يدي عثمان رضي الله عنه، وعادت العلاقة بينه وبين عثمان رضي الله عنه كما كانت قبل هذه الحادثة. وهذه الروايات باتفاق.

ونحن كما نرى هذا الموقف، فقد كان من الصعب بداية على عبد الله بن مسعود أن يقوم بحرق مصحفه الذي ظل ما يربو على عشرين سنة يكتب فيه آي الذكر الحكيم التي يسمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمثل هذه المصحف شيئا عظيما في حياته، ويربطه بكل ذكرياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع الصحب الكرام رضوان الله عليهم جميعا فقد كان جزءا لا يتجزأ من حياته، فكان هذا رد فعله ابتداء، ولكنه لما علم الحق واقتنع به رجع عن رأيه وتاب عنه، ولم يخطأ عثمان رضي الله عنه إطلاقا في حقه ولم يضربه ولم يمنعه عطاءه.

- أما التهمة الثانية المفتراة على عثمان رضي الله عنه فهي أنه ضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه حتى فتق أمعاءه، ولو حدث هذا ما عاش عمار بعد تلك الوقعة المكذوبة، ولكن عمارا رضي الله عنه عاش حتى موقعة صفين بعد ذلك، فضرب عمار رضي الله عنه حتى فتق أمعائه لم يحدث، أما ضربه فقط فقد حدث، والسبب في هذا الأمر أنه قد حدث خلاف بين عمار بن ياسر رضي الله عنه، وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب رضي الله عنه، فقذف بعضهما بعضا فعزرهما عثمان رضي الله عنه بالضرب، بعد أن رأى أن كلا منهما قد أخطأ في حق أخيه، ومر هذا الأمر دون أن يترك أثرا في نفوس الصحابة رضي الله عنهم جميعا، ومما يؤكد ذلك أن عثمان رضي الله عنه عندما اختار مجموعة من كبار الصحابة؛ ليدفعوا الشبهات عن المسلمين في الأمصار كان ممن اختارهم لأداء هذه المهمة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأمره أن يذهب إلى مصر، وقد ذكرنا أن رءوس الفتنة في مصر قد استمالوا عمارا رضي الله عنه بشبهاتهم على الأمراء، فتأخر عمار رضي الله عنه في مصر، وظن عثمان رضي الله عنه والمسلمون في المدينة أن عمارا قد قتل، وجاءت رسالة من مصر من عبد الله بن أبي سرح والي عثمان رضي الله عنه فيها أن القوم قد استمالوا عمارا، فأرسل إليه عثمان رضي الله عنه برسالة، ولما رجع عمار رضي الله عنه، وقص له ما حدث، قال له عثمان رضي الله عنه:

قذفت ابن أبي لهب أن قذفك، وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه، اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة، اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد، ولا أبالي، اخرج عني يا عمار.

فكان هذا عتابا من عثمان لعمار رضي الله عنهما، وقد اعتذر عمار رضي الله عنه عن ميله لرءوس الفتنة في مصر الذين حاولوا أن يقنعوه بما هم عليه، وأظهر توبته ورجوعه عن هذا الأمر بين يدي عثمان رضي الله عنه وبوجود كبار الصحابة.

فقصة ضرب عمار رضي الله عنه حنى فتق أمعائه أمر مكذوب تماما، ولكن الأحداث كانت كما رأينا، وكون عثمان رضي الله عنه ضرب الاثنين، لو كان ضربهما، لا يقدح هذا الأمر في الثلاثة، وذلك لأنهم من أهل الجنة جميعا، وقد يصدر من أولياء الله ما يستحقوا عليه العقوبة الشرعية (الحد) فضلا عن التعزير، وفعل مثل هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما ضرب أبي بن كعب وهو من كبار الصحابة ويقرأ القرآن على قراءته، وذلك لأنه كان يسير في المدينة، ويتبعه الناس فضربه عمر رضي الله عنه بالدرة وقال له: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.

وأمره ألا يجعل أحدا يسير خلفه، بل فعل هذا الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أحد الصحابة الذي كان قد شرب الخمر في غزوة خيبر فضربه أربعين ضربة، وقيل إنها كانت بالنعال، ولما لعنه أحد الصحابة بعد هذا الضرب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أولو كان يحب الله ورسوله.

إذن فالضرب لا يقلل من قيمة هؤلاء وهم في الجنة باتفاق، ثم إن التعزير يراد به التأديب على أمر ليس فيه حد ولا كفارة، والذنوب من حيث العقوبة المترتبة عليها ثلاثة أنواع:

الأول: يترتب عليه حد مثل السرقة أو الزنا.

والثاني: ما يترتب عليه الكفارة دون الحد، مثل الجماع في نهار رمضان، أو الجماع في الإحرام.

والثالث: ما لا يترتب عليه حد ولا كفارة، وهو ما يكون فيه التعزير، كالسب فيما عدا القذف بالزنا فإن فيه الحد، وكذا سرقة ما حد فيه، وكذلك الكذب قد يكون فيه التعزير، ويرى أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد أن التعزير واجب، وقال الشافعي: مندوب. والحد والتعزير كلاهما عقاب والمستهدف منهما تطهير النفس، وردع الناس عن ارتكاب المعاصي، وأن يأتي الناس يوم القيامة، وقد كفرت ذنوبهم بالحدود والتعزير، والكفارات، والفرق بين الحد والتعزير أن الناس جميعا يتساوون في إقامة الحد عليهم، ولكن التعزيرات تختلف باختلاف الناس، فإذا أخطأ الكريم من أهل التقوى والصلاح يكون التعامل معه غير أهل الفسق الذين يداومون على ارتكاب المعاصي والآثام، والحدود لا تجوز فيها الشفاعة بينما تجوز في التعزيرات، ومن مات أثناء تعزيره فله ضمان وهو مثل الدية، أما من مات أثناء إقامة الحد عليه فليس له ضمان، وقال بعض الفقهاء ليس لمن مات في التعزير ضمان.

والتعزير قد يكون بالكلام كالتوبيخ، أو الوعظ، أو الحبس، أو الضرب، أو النفي، أو العزل من العمل، والحاكم له حق التعزير مطلقا، وقال الفقهاء: إنه لا ينبغي التعزير بأكثر من عشرة أسواط، وقيل أقل من ثمانين، وقيل يرجع لتقدير الحاكم.

فهذا ما فعله عثمان رضي الله عنه مع عمار بن ياسر وعباس بن عتبة عندما قذف كل منهما صاحبه.

وممن له حق التعزير أيضا الوالد فله أن يعزر ولده، وليس للوالد أن يضرب ولده بعد البلوغ.

وممن له حق التعزير السيد لرقيقه سواء بالضرب أوالحبس أو غير ذلك، ولكن هذا كله دون تعسف أو ظلم، فالله تعالى مطلع على كل الأمور.

فعثمان رضي الله عنه له حق التعزير، حتى ولو عارضه الصحابة، والواقع أن أحدا من الصحابة لم ينكر عليه هذا الأمر.


قضية جمع القرآن
التهمة الثالثة على عثمان رضي الله عنه أنهم يقولون أنه ابتدع في جمع القرآن، وفي حرق المصاحف، وهكذا نرى أن الحسنات يجعلها أهل الفتنة سيئات، وقد قال كثير من العلماء أن هذه هي أعظم حسنات عثمان بن عفان رضي الله عنه وقالوا إن هذا الأمر أفضل من حفره بئر رومة، وأفضل من تجهيزه جيش العسرة؛ لأن أثره مستمر إلى يوم القيامة.

والصحابة جميعا وافقوا على هذا الأمر، وحتى ما كان من أمر عبد الله بن مسعود في البداية رجع عنه، واقتنع برأي عثمان، وسائر الصحابة رضي الله عنهم جميعا، واجتماع الصحابة لا يأتي على ضلالة، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في خلافته:

لو لم يفعله عثمان لفعلته أنا، وجاء في كتب الشيعة أنفسهم ما يؤكد إجماع الصحابة على هذا الأمر، والحق ما جرت به ألسنة الأعداء، ففي كتاب سعد السعود، وهو من المراجع الشهيرة للشيعة، قال ابن طاوس نقلا عن الشهرستاني عن سويد بن علقمة قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:

أيها الناس، الله الله، إياكم والغلو في أمر عثمان، وقولكم حرق المصاحف، فوالله ما حرقها إلا عن ملإ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جمعنا وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها يلق الرجل الرجل فيقول: قراءتي خير من قراءته، وهذا يجر إلى الكفر.

فقلنا: ما الرأي؟

قال: أريد أن أجمع الناس على مصحف واحد فإنكم إن اختلفتم الآن كان مَن بعدكم أشد اختلافا.

فقلنا جميعا: نِعْمَ ما رأيت.

فهذا كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مراجع الشيعة أنفسهم؛ في هذا الكتاب، وفي بعض الكتب الأخرى للشهرستاني، وفي كتب أخرى يزعمون أن عثمان رضي الله عنه ابتدع في جمعه للقرآن، وحرقه للمصاحف، وهذا التناقض عندهم يظهر الحق.

ومع هذا الإجماع الكبير من الصحابة على هذا الأمر إلا أن الشيعة يزعمون أن عثمان رضي الله عنه إنما جمع المصحف برغبته الشخصية، وجمع بعض الصحابة وذكروهم بالاسم، وألفوا قرآنا غير الذي أنزل، كما يزعم الشبعة أن لديهم القرآن الحقيقي، وهو ثلاثة أضعاف، وهو مخبأ عندهم في سرداب، وسيأتي مع الإمام الثاني عشر، وليس فيه حرف واحد من القرآن الذي معنا، وأقر بعض الشيعة ببعض الآيات في القرآن الكريم، وحذف آيات أخرى.

وكان إنكار الشيعة لجمع القرآن في عهد الصديق أبي بكر رضي الله عنه، وادعائهم أن القرآن الذي بين أيدينا اليوم قد ألف في عهد عثمان كان هذا يمثل مادة دسمة للنصارى كي يطعنوا في القرآن، وهذا الطعن من قديم، ففي عهد ابن حزم الأندلسي كثر الطعن من قبل النصارى في حق المسلمين في هذه النقطة، وأن المصحف ألف في عهد عثمان رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، ومراجع النصارى في ذلك هي كتب الشيعة التي تقول:

إن المصحف الحقيقي هو الذي أنزل على السيدة فاطمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، واحتفظ به بعد ذلك علي بن أبي طالب والأئمة من بعده.

يقول ابن حزم في كتابه (الفصل): إن الروافض- الشيعة- ليسوا من المسلمين، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكفر.

حديث: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ منه



هذا حديث صحيح رواه أكثر من عشرين من الصحابة رضي الله عنهم، وتأويل هذا الحديث من الكثرة بمكان، فذكر السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن) أربعين تأويلا لهذا الحديث، وذكر ابن حجر، وابن حبان خمسة وثلاثين قولا في تأويل هذا الحديث، والسبعة أحرف قيل: إنها سبع قراءات، وقيل سبع لهجات.

وقيل: هذه السبع لهجات في مضر.

وقيل: في قريش.

وقيل: معناها أن المشكل في القرآن الكريم يحتمل سبعة تفسيرات على الأكثر.

وقيل: التغاير في اللفظ أو الشكل.

وقيل: الزيادة والنقصان، أو الإبدال، أو الإعراب، أو التقديم، أو التأخير.

وذهب الطحاوي أن هذا الأمر كان رخصة للمسلمين في قراءة القرآن؛ لتعذر قراءته على مختلف القبائل بلهجة واحدة، فلما رأى الصحابة انتشار القراءة بين هذه القبائل، وشدة الحفظ وإتقانه، أقروا قراءة واحدة، وهي التي كتبها عثمان رضي الله عنه في مصحفه، وقال بهذا ابن جرير الطبري وقال: لم يكن ذلك ترك واجب، ولا فعل محرم، فاتفق الصحابة على كتابته كما جاء في العرضة الأخيرة.

فما بين أيدينا اليوم هو المصحف الذي كتب في عهد عثمان رضي الله عنه، كما نزل في العرضة الأخيرة، باللسان الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- التهمة الرابعة الموجهة إلى عثمان رضي الله عنه أنه حمى الحمى:

ومعنى ذلك أنه خصص جزءا معينا من الأرض لبعض الإبل لترعى فيها دون غيرها من الإبل، قالوا: إنه ابتدع في هذا الأمر.

وقالوا: إنه كان يجعلها لإبله وخيله.

والقولين مردود عليهما.

أما قولهم أنه رضي الله عنه ابتدع الحمى، فهذا غير صحيح، حيث إن الحمى كان موجودا في الجاهلية قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان السيد يدخل الأرض التي يريد أن يجعلها حمى لإبله، ومعه كلب يعوي، ويكون حدود حماه على امتداد عواء كلبه، وتكون تلك المنطقة من الأرض خاصة به لا تستطيع أي إبل غير إبله أن ترعى فيها، وهذا هو الحمى، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ألغى هذا الأمر كله، إلا لإبل الصدقة فقط، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمى في منطقة الربذة- كانت الربذة فلاة بأطرف الحجاز مما يلي نجد- وكان مساحتها ميل في سبعة أميال، وكانت ترعى فيها إبل الصدقة، والإبل التي تعد للجهاد، وللمصالح العامة.

عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. رواه البخاري.

وقد فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحمى، ولما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه زاد في هذه المساحة، وضم إليها أماكن كثيرة، وذلك لكثرة الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكثرة إبل الجهاد، فكان لا بد من منطقة كبيرة ترعى فيها إبل، وخيول الجهاد، ولما كان عهد عثمان رضي الله عنه اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وكثرت الخيرات عند المسلمين، وكثرت الإبل، فاتسعت منطقة الحمى إلى أكبر مما كانت عليه.

إذن فأصل الحمى سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزيادة فيه سنة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أمر اقتضته الحاجة، وليس فيه أي تعارض مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.

أما إبل عثمان رضي الله عنه فكانت لا ترعى في هذا الحمى، وإنما كان هذا الحمى لإبل الصدقة فقط، وأما إبل عثمان رضي الله عنه فكانت ترعى في أماكن أخرى بعيدة، وكان عثمان رضي الله عنه شديد الدقة في هذا الأمر، حتى أنه كان يمنع أي إبل للأغنياء أن تدخل في حمى إبل الصدقة، وكان يترخص لإبل الفقراء لأنها ربما تهلك نظرا لفقر أصحابها، وعدم قدرتهم على إطعامها.

وكان عثمان رضي الله عنه أكثر العرب إبلا قبل أن يتولى الخلافة، وعندما استشهد رضي الله عنه لم يكن يملك سوي بعيرين كان قد استبقاهما للحج، وباقي إبله كان قد تبرع بها للمسلمين خلال مدة خلافته، وخيره رضي الله عنه سابق على المسلمين منذ أسلم حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه.


قضية أبي ذر
- أما التهمة الخامسة فقد قالوا: إن عثمان رضي الله عنه قد أجلى أبا ذر رضي الله عنه من الشام إلى الربذة.

ذكرنا قبل ذلك أن عبد الله بن سبأ لما لما يجد صدى لكلامه في أرض الشام ذهب إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، وكان زاهدا شديد الزهد عاكفا عن الدنيا بالكلية، وأراد ابن سبأ إشعال الفتنة في الشام، فقال لأبي ذر رضي الله عنه: إن معاوية يقول: إن المال مال الله يريد بذلك أن يحجزه عن المسلمين.

ومعاوية رضي الله عنه قال هذه الكلمة، ولكن ابن سبأ اليهودي أوله لأبي ذر على غير ما يراد بها، فذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه وقال له:

تقول: المال مال الله؟

قال: نعم.

فقال له أبو ذر: المال مال المسلمين.

فقال له معاوية رضي الله عنه وكان معروفًا بحلمه الواسع:

يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه والأمر أمره؟ فقال أبو ذر: فلا تقله.

فقال له معاوية رضي الله عنه في منتهى الرفق: لن أقول: إن المال ليس مال الله. ولكني أقول: المال مال المسلمين.

وكان أبو ذر رضي الله عنه يمر على أغنياء الشام، وعلى ولاة معاوية في أنحاء الشام، ويقرعهم بقول الله عز وجل: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {التوبة:34}.

ويقول لهم: من امتلك أكثر من قوت يوم واحد، فقد كنز المال، ودخل تحت حكم هذه الآية.

فهو رضي الله عنه يرى أن على كل من يمتلك أكثر من قوت يوم واحد أن ينفقه في سبيل الله على سبيل الفرض، ولا بد من ذلك، ومن لم يفعل دخل في حكم الآية، وقال أبو ذر رضي الله عنه هذا الكلام لمعاوية بن أبي سفيان أيضا، فقال له معاوية رضي الله عنه:

سبحان الله إن الناس لا تطيق ذلك، وهذا الأمر ليس بواجب.

وبلغ معاوية رضي الله عنه هذا الأمر إلى عثمان رضي الله عنه.

ولنا وقفة مع هذا الموقف من أبي ذر رضي الله عنه

أولا: أبو ذر رضي الله عنه من الزهاد شديدي الورع، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولكننا نرى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: ما أديت زكاته فليس بكنز.

والقاعدة الشرعية تقول: إنه لا حد للمسلم في الثروة، وللمسلم أن يمتلك ما استطاع أن يمتلكه، لكن بشروط أن يكون هذا المال من حلال، وأن ينفقه في الحلال، ولا ينفق بسفه، وأن يؤدي زكاة ماله.

وحال أبي ذر رضي الله عنه أشد ورعا، وأقرب إلى الجنة، ومن الخير أن يزهد الإنسان في الدنيا قدر ما يستطيع، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحض على هذه الدرجة من الزهد، فكان صلى الله عليه وسلم ينام على حصير حتى يظهر أثر ذلك على جسده الشريف صلى الله عليه وسلم، وكان يربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع، وكان لا يوقد في بيته نار ثلاثة أهلة؛ أي شهرين كاملين، وكان أبو بكر رضي الله عنه كذلك، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كذلك، وكثير من الصحابة رضي الله عنهم كانوا على هذا القدر من الزهد، والورع، ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له جبل أحد ذهبا لجعله كذلك، كما ورد في الصحيح، وكما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَا لِي وَالدُّنْيَا.

ويحاول أبو ذر رضي الله عنه أن يقتدي به في هذا الأمر، وأن يحمل الناس على ذلك، لكن الناس لا يطيقون ذلك ولايستطيعون الوصول إلى هذه الدرجة، كما أن هذا الأمر ليس بفرض، والفرض كما أسلفنا أنه إذا أراد الإنسان أن يمتلك فليكن من حلال، ولينفق في الحلال، وليؤدي زكاة ماله، ولا يمكن أن ننكر أن المسلم إذا اجتهد في جمع المال من الحلال، وأنفقه في سبيل الله، فإن ذلك يعود على المسلمين بالنفع والخير العميم ما لا يستطيعه الفقير، ولا أحد ينكر فضل الثراء الذي كان عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه على الإسلام، وفضل أبي بكر رضي الله عنه، وفضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقد كانت أموالهم نصرة للدعوة الإسلامية، فكون المسلم إذن يكتسب المال من الحلال، وينفقه في سبيل الله، فهذه فضيلة كبيرة يحث عليها الإسلام، شرط ألا يكون جمع المال رغبة في الدنيا، أو رغبة في الجمع، والكنـز، وزيادة الأموال من دون فائدة، وعلى المسلم إذا أراد أن يكون مثاليا أن يقسم وقته بين العبادة لله تعالى من صلاة، وتعليم للغير، وجهاد في سبيل الله، وبين التكسب للعيش، فوقت المسلم ينبغي أن يقسم هكذا بين حاجاته، وحاجات المسلمين، وعبادته لله رب العالمين، وليجعل نيته في العمل أن يعف نفسه، وأهله، ويكفيهم من الحلال، وأن ينفق على الإسلام والمسلمين، وليس الإنفاق هذا على المسلمين وعلى الدعوة الإسلامية، فضلا منه وتفضلا، بل إنه مما ينبغي عليه أن يفعله دون مَنّ ولا أذى، وأن هذا المال إنما هو مال الله استخلفك عليه ليرى ماذا تفعل فيه.

ويزعم الاشتراكيون أن أبا ذر هو زعيمهم في الإسلام لأنه قال بتوزيع الثروة، وحاشا لله أن يكون أبا ذر فردا من الاشتراكيين، فضلا عن أن يكون زعيما لهم، فنية أبي ذر رضي الله عنه، إنما كانت الزهد في الدنيا، وعدم الرغبة فيها، وأن يكون الناس جميعا مما ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولم يكن يقصد رضي الله عنه أن يتم توزيع الثروات بين الناس مساواة، ومن يعمل كمن لا يعمل.

لما علم عثمان من معاوية بأمر أبي ذر رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم، أرسل إليه، فجاءه، وتناقش معه عثمان رضي الله عنه وأرضاه في هذا الأمر، وقال أبو ذر ابتداءً:

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعا. وهو مكان في أطراف المدينة لم يكن البناء قد بلغه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الخبير بالرجال يعلم جيدا أنه إذا انتشرت الحضارة في المدينة ووصل الناس إلى هذه الدرجة من المعيشة فلن يستطيع أبو ذر أن يعيش بين الناس نظرا لطبيعة الورع، والزهد التي يعيش عليها ويلزم نفسه بها، ولو عاش بين الناس بهذا الأسلوب لأرهق نفسه وأرهقهم، ومن ثَم ينصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النصيحة.

فقال عثمان لأبي ذر رضي الله عنه: فما الرأي؟

قال أبو ذر رضي الله عنه: أريد الربذة.

إذن فأبو ذر رضي الله عنه هو الذي يريد الخروج إلى الربذة.

قال عثمان رضي الله عنه: فافعل.

أي أنه وافقه على ما يريد.

فخرج رضي الله عنه بإرادته، واختياره، وباقتراحه إلى الربذة، ولم يكن هذا نفيا أو طردا كما ادعى أصحاب الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه، وكما ادعى الشيعة بعد ذلك في كتبهم حتى هذا الوقت، ووقع في ذلك الكثير من جهال المسلمين الذين ينقلون دون علم أو وعي، ويؤكد على ذلك ما رواه عبد الله بن الصامت قال:

قالت أم ذر: والله ما سير عثمان أبا ذر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا بَلَغَ الْبُنْيَانَ سَلْعَا فَاخْرُجْ مِنْهَا.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

ثم إن عثمان رضي الله عنه لما أراد أبو ذر برغبته وإرادته الخروج إلى الربذة أعطاه إبلا، وصرف له مملوكين، وأجرى له رزقا، والأكثر من هذا أن أبا ذر رضي الله عنه كان يتعاهد المدينة، أي يأتي كل مدة لزيارة المدينة، ولو كان منفيا ما كان له أن يدخل المدينة، إضافة إلى هذا فالربذة هذه لم تكن مكانا معزولا في الصحراء، فيقول الحموي عنها أنها كانت أحسن منزل في الطريق بين المدينة، ومكة، وكان تبعد عن المدينة ثلاثة أميال فقط، وكان فيها عمران، وبنى فيها مسجدا، وبناء المسجد يدل على أنه رضي الله عنه لم يكن يعيش بمفرده في هذا المكان.

فالأمر إذن لم يكن عزلا، أو نفيا، أو طردا كما يزعمون، ولكنه كان باختيار أبي ذر رضي الله عنه ورغبته في الخروج.

- التهمة السادسة: يزعمون أن عثمان رضي الله عنه أخرج أبا الدرداء من الشام نفيا، وعزلا، وقهرا، وكان قاضيا بها، قالوا ذلك في زمن الفتنة، ولم ينتشر هذا الأمر في كتب الشيعة بعد ذلك، لأن أبا الدرداء ممن لم يرض عنه الشيعة، والحق أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان قاضيا على الشام، وكان شديدا في الحق، إلى درجة أن البعض يشبه شدته في الحق بشدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه لا يتسامح مع أحد أبدا في حق الله تعالى، وكان يخاطب أهل الشام بشيء من الشدة، فكره الناس ذلك، وكان معاوية رضي الله عنه هو الوالي بينما كان أبو الدراء قاضيا، وكان معاوية رضي الله عنه شديد اللين، والحلم فلم ينه أبا الدراء عن هذا الأمر، وكما نعرف أن أبا الدرداء رضي الله عنه من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرت الشكاوى إلى عثمان رضي الله عنه، واجتهد عثمان رضي الله عنه في عزل أبي الدرداء عن قضاء الشام، بعد أن تحدث معه في هذا الأمر، وترك أبو الدرداء رضي الله عنه الشام بإرادته، واختار المدينة المنورة؛ ليعيش فيها بجوار عثمان رضي الله عنه.

فهذه القضية مردود عليها بسهولة في كتب التاريخ، وكان ما يرمون إليه من إثارة هذا الأمر أنهم يريدون أن يثيروا الناس جميعا على عثمان رضي الله عنه، ومنهج رءوس الفتنة في ذلك أنهم يطعنون في ولاة عثمان رضي الله عنه، وينتقصونهم، ويلصقون بهم العيوب، وإذا كان بعضا من هؤلاء الولاة من رموز الصحابة، اجتهدوا أن يظهروا الخلاف، والشحناء بينه، وبين عثمان رضي الله عنه كعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري، وهكذا.

وولاة الأمر الآخرون إما أنهم أقرباؤه، وإما أنهم فساق أو ظلمة على زعمهم الكاذب، فالغرض هو الطعن في عثمان رضي الله عنه من كل الوجوه، حتى إذا أخذوا مجموعة من الناس، وذهبوا يريدون عزله؛ كانت الأمة متقبلة إلى حد ما هذا الأمر العظيم الجلل الذي لم يحدث من قبل.

عثمان والحكم بن العاص:

التهمة السابعة: أنه - أي عثمان رضي الله عنه - رد الحكم بن أبي العاص بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تقول الرواية الموجودة في كتب الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم طرد الحكم بن العاص، وابنه مروان من المدينة، فلم يزل طريدا في زمن أبي بكر، وعمر، فلما ولي عثمان آواه، ورده إلى المدينة.

أولا: هذه الرواية لم ترد في أي كتاب من كتب الصحاح، والرواية التي جاءت في كتب السنة، إنما جاءت في حديث مرسل، والحديث المرسل هو الذي رفعه التابعي إلى الرسول مباشرة من غير ذكر للصحابي، وفي بعض الأقوال أن الحديث المرسل ضعيف لا يحتج به، وقد حكى في (التقريب) هذا القول عن جماهير من المحدثين، وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول.

ثانيا: الرواة في هذه الرواية الكثير منهم مشكوك فيه، ومنهم من يطعن فيه بالكذب.

وتعالوا بنا نتدبر أمر هذه القضية المثارة بشيء من الحكمة

أولا: الحكم بن العاص من مسلمي الفتح، فقد أسلم رضي الله عنه سنة 8 هـ، ومسلمي الفتح يسمون في التاريخ الطلقاء وكانوا ألفين، فقد كان رضي الله عنه إذن يعيش في مكة لا في المدينة، فكيف يطرده النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، بينما هو يعيش في مكة؟ ربما قال البعض: إنه قد يكون هاجر من مكة إلى المدينة بعد الفتح. ونقول لهم: روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا.

فهذا نهي على الإطلاق عن الهجرة إلى المدينة بعد الفتح، ولما هاجر صفوان بن أمية، وهو من مسلمي الفتح إلى المدينة واستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أخبره أنه جاء مهاجرا رده إلى مكة وقال له: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.

وجاء العباس رضي الله عنه برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقسم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايعه على الهجرة وذلك بعد الفتح، فأمسك الرسول صلى الله عليه وسلم بيد هذا الرجل الذي أتى به العباس رضي الله عنه وقال: إِنِّي أَبْرَرْتُ قَسَمَ عَمِّي، وَلَكِنْ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ.

والحديث في مسند الإمام أحمد، إذن فالحكم بن العاص كان من سكان مكة أصلا، ولم يكن من سكان المدينة حتى يطرده النبي صلى الله عليه وسلم منها.

وقال بعض العلماء: إن الحكم ذهب إلى في الطائف باختياره، وليس نفيا، وهذا الأقرب إلى الصواب؛ لأنه عاش فترة في الطائف في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي الرواية نفسها يقولون: إنه نفى الحكم بن أبي العاص، وابنه مروان من المدينة إلى الطائف، وإذا قدرنا عمر مروان بن الحكم في سنة 8 هـ عام الفتح، وجدنا أن عمره سبع سنوات، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه في آخر يوم من حياته فلن يتجاوز عمره عشر سنوات على الأكثر، ومن المستحيل أن ينفي الرسول صلى الله عليه وسلم غير مكلف، ولو سلمنا جدلا أن هذه الرواية التي جاءت في كتب الشيعة صحيحة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى الحكم بن العاص إلى الطائف؛ فليس هناك ذنب في الشريعة الإسلامية يستوجب النفي الدائم، فالنفي يكون إما فترة يتمها المنفي ويعود، وإما يترك حتى يتوب من ذنبه، فإذا تاب ورأى الحاكم صدق توبته عاد، فلو كان الحكم منفيا، وأعاده عثمان رضي الله عنه، فليس في ذلك ضرر، فإن قيل: لِمَ لَمْ يرده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مع أن عثمان رضي الله عنه كما في رواية خاطبهما في هذا الأمر؟

ولو سلمنا جدلا أنه كان منفيا في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يرداه فربما لأن توبته لم تظهر بعد، أو قد تكون مدة النفي غير كافية في عهدهما، لكنها كفت في عهد عثمان رضي الله عنه، أو أن الحكم بن العاص لم يطلب أن يعود إلى المدينة من أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما، لكنه طلب ذلك من عثمان رضي الله عنه.

فإن قيل: إن نفي الحكم بن أبي العاص كان نفيا دائما استحال على الظن أن يعيده عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك لأن عثمان رضي الله عنه أشد ورعا من أن يقطع أمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والأكثر من هذا أن يسكت جميع الصحابة على هذا الأمر، أو لا أحد منهم يتحدث، ويعارض عثمان رضي الله عنه، ويقول له: إنك قد قطعت أمرا قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدوامه واستمراره، ومن بين الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان موجودا، ووافق على عودة الحكم بن أبي العاص، إذا فرضنا أنه كان منفيا، وأعاده عثمان رضي الله عنه.

فإذا قيل: لِمَ يشفع عثمان رضي الله عنه في رجل قد ارتكب ذنبا؟

نقول: لأن هذا نوع من صلته لرحمه، وهذا عمه، وقد ورد في البخاري عن عروة عن أسماء قال:

قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش، ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع ابنها فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت، وهي راغبة، أفأصلها؟

قال: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ.

وقد أوصت السيدة صفية بنت حيي بن أخطب أم المؤمنين رضي الله عنها، وأرضاها قبل موتها لبعض قرابتها من اليهود، واحتج بعض الفقهاء بهذا الأمر أنه يجوز للمسلم أن يوصي لأقربائه من أهل الذمة، فإذا كان يجوز للمسلم أن يصل رحمه الكافر، أفلا يجوز له أن يصل رحمه المسلم؟

وإذا سلمنا جدلا أن عثمان رضي الله عنه قد أخطأ في هذا الأمر، وأنه اجتهد في إعادة الحكم بن العاص إلى المدينة، وكان الأفضل ألا يعيده، فمن يستطيع أن يطعن في عثمان بن عفان رضي الله عنه لأجل هذا الأمر؟

لننظر إلى أمر حاطب بن أبي بلتعة، ماذا فعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لقد أفشى سر استعداد دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة لفتحها، وكان يخشى على أهله، وماله بمكة، فأراد أن تكون له يد عند أهل مكة، فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي بهذا الأمر، في البخاري عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا مرثد الغنوي، والزبير بن العوام، وكلنا فارس، قال: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ

فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب؟

فقالت: ما معنا كتاب.

فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك.

فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟

قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي، ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله، وماله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا.

فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه.

فقال: أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟

فقال: لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ.

أو: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.

فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.

فما فعله حاطب بن أبي بلتعة أعظم بكثير مما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه في شأن الحكم بن أبي العاص لو كان قد أخطأ في إعادته لو افترضنا في الأصل أنه كان منفيا.

ودرجة عثمان بن عفان رضي الله عنه أعلى بكثير من درجة حاطب بن أبي بلتعة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إيمان عثمان رضي الله عنه يعدل إيمان الأمة كلها إذا أخرجنا من إيمان الأمة إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم وإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:

كنا لا نعدل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي بكر، وعمر، وعثمان أحدا، وبعدهم لا نفاضل بين الصحابة.

فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبى أن تقطع رقبة حاطب بن أبي بلتعة في هذا الأمر الخطير الذي يسمى في عصرنا بالخيانة العظمى، بل لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوصف حاطب بالخيانة، أو النفاق، أفلا نقبل اجتهاد عثمان رضي الله عنه لو كان قد أخطأ وهو من هو رضي الله عنه وأرضاه في هذه القضية التي هي أبسط بكثير من قضية حاطب رضي الله عنه.

فهذا الأمر لمستوثقي الإيمان وسليمي العقيدة واضح جلي، وكما ذكرنا أنه ينبغي أن يكون أمر الصحابة عندنا منـزه تماما، وأنه ما كان لأحد من عموم الصحابة أن يكون في نيته أي سوء للمسلمين فضلا عن أن يكون عثمان بن عفان رضي الله عنه.

بل إن الشيعة يصفون عثمان رضي الله عنه ليس بالخيانة، أو النفاق، بل بالكفر صراحة دون أي نوع من المواربة، ومثله أبو بكر وعمر أيضا، فأني يؤفكون.


قضية قصر الصلاة
- التهمة الثامنة: يقولون إن عثمان رضي الله عنه أبطل سنة القصر في السفر.

وأصل هذا الأمر أن عثمان رضي الله عنه في موسم الحج سنة 29 هـ أتمّ الصلاة في منى، وكان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقصر الصلاة في منى، وفي كل سفر، ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتمّ الصلاة في أي سفر من أسفاره، فكان هذا الأمر مخالفًا للمعتاد، فناظره في ذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، واعترض عليه بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعًا، فقال عثمان رضي الله عنه مفسّرًا سبب إتمامه للصلاة:

تأهّلت بمكة. أي تزوجت بها، فأصبح إذن من أهل مكة، فقال عبد الرحمن بن عوف:

ولك أهل بالمدينة، وأنت تقوم حيث أهلك بالمدينة.

فقال عثمان بن عفان: وإن لي مالًا في الطائف، فقال: إن بينك وبين الطائف ثلاث.

أي ثلاثة أيام سفر فلا تُعتبر بلدك، فقال عثمان:

وإن طائفة من أهل اليمن قالوا: إن الصلاة بالحضر ركعتان.

أي أن بعض الأعراب من أهل البادية البعيدين عن العلم والفقه ظنوا أن القصر هذا في السفر، وفي الحضر، فبدءوا يقصرون في الحضر أيضًا، يقول عثمان رضي الله عنه:

فربما رأوني أقصر في الصلاة فيحتجون بي.

فقال عبد الرحمن بن عوف: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والإسلام في الناس يومئذ قليل، وكان يصلّي هاهنا ركعتين، وكان أبو بكر يصلي هاهنا ركعتين، وكذلك عمر بن الخطاب، وصليت أنت ركعتين صدرًا من إمارتك.

فسكت عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم قال: إنما هو رأي رأيته.

ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عند عثمان بن عفان، فالتقى مع عبد الله بن مسعود، فخاطبه في ذلك، وأخبره بما دار بينه، وبين عثمان رضي الله عنه، فقال عبد الله بن مسعود:

لقد صليت بأصحابي اثنتين، ثم علمت أنه صلّى بأصحابه أربعًا، فصليت أربعًا فالخلاف شرٌّ.

فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعًا، فصليت بأصحابي ركعتين، أما الآن فسوف يكون الذي تقول.

أي أن عبد الرحمن سيصلّي أربعًا حتى لا يكون هناك خلاف بينهم، وفي الحقيقة هذا الأمر فيه فقه عظيم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فمع اقتناع عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما برأيهما في قصر الصلاة، إلا أنهم قالوا: الخلاف شر.

وهذا على عكس ما يردده بعض الناس: اختلاف أمتي رحمة.

ويزعمون أنه حديث، وهو قول لا أصل له، بل هو قول فاسد، فإن الخلاف شر، وليس برحمة، ويقول الفقهاء في مسألة القصر هذه، قال الشافعية والحنابلة: إن القصر والإتمام جائز، وإن كان القصر أفضل.

وقال المالكية: إن القصر سنة مؤكدة. وقالوا أيضًا: إن القصر في السفر آكد من سنة صلاة الجماعة.

ويترتب على هذا أنه لو كنت مسافرًا، ووجدت جماعة يصلون فالأفضل أن تصلي منفردًا قصرًا، ولا تصلّي جماعة مع المقيم، إلا إذا وجدت مسافرًا معك يصلي فاقتدِ به، ويصلي كل منكما ركعتين.

أما الحنفية فقالوا بوجوب القصر في السفر، وإذا أتممت أربعًا قُبلت الصلاة، ولكنك مخالف للسنة عمدًا، فتُحرم من الشفاعة، بل إنهم قالوا: إذا لم تجلس للتشهد الأوسط بطلت الصلاة.

القضية إذن قضية اجتهاد، فقد اجتهد عثمان رضي الله عنه في هذه الأمر، وإن كان الأولى هو القصر في السفر، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يتم صلاة قط في سفر، إلا أن الأمر كان موضع اجتهاد، ووافقه الصحابة لتجنب الخلاف، ولو كان حرامًا لما وافقه الصحابة رضي الله عنهم جميعًا.

فإن كان عثمان رضي الله عنه قد أخطأ في اجتهاده هذا فله أجر واحد، وإن كان أصاب فله أجران، وقد كان لعثمان رضي الله عنه تأويلات يستند إليها في رأيه كزواجه، وماله بالطائف، وافتتان الناس بالقصر، وهذا الأمر لا يُحل دمه رضي الله عنه بأي حال من الأحوال.


توليته أقاربه
- التهمة التاسعة: أنه ولّى معاوية بن أبي سفيان وكان قريبًا له.

الحديث عن معاوية رضي الله عنه وأرضاه سنفصل فيه عندما نتحدث عن القتال الذي دار في معركة صفين، وعند الحديث عن خلافة معاوية رضي الله عنه سوف نتحدث عنه بصورة أكبر، ولكننا الآن نلقي الضوء سريعًا على حياة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فنقول:

كان رضي الله عنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب له الوحي، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتمنه على وحي السماء، وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، جعله أبو بكر رضي الله عنه خليفة لأخيه يزيد بن أبي سفيان على الجيش الخارج لحرب الروم في الشام، وفي عهد عمر رضي الله عنه ولّاه عمر رضي الله عنه على حمص، بعد عزل عمر بن سعد، وكان من زهّاد الأنصار وقدامى الصحابة رضي الله عنهم جميعًا وتحدث الناس قائلين: يعزل سعدًا ويولّي معاوية.

وقد أسلم معاوية رضي الله عنه سنة 8هـ أو سنة 6 هـ كما سيأتي في موضعه، فقال عمير بن سعد رضي الله عنه:

لا تذكروا معاوية إلا بخير، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللَّهُمَّ اهْدِ بِهِ.

رواه الترمذي، وجاءت هذه الرواية أيضًا على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

ثم بعد هذا ولّاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام بالكامل، وذلك بعد حدوث الطاعون، ووفاة الأمراء الواحد تلو الآخر، وكما نعرف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديد الدقة في اختيار الأمراء، وكان لا يتردد في عزل أحد، حتى وإن كانوا من قدامى الصحابة، كما عزل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه وأرضاه، وقد أقرّ عمر رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه على ولايته حتى استشهد سنة 23 هـ، وبعد وفاة عثمان رضي الله عنه قال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحقٍ من صاحب هذا الباب، وأشار إلى باب معاوية، في خلافة معاوية.

وقال حبر الأمة عبد الله بن عباس: ما رأيت رجلًا أخلق بالملك من معاوية.

كان معاوية رضي الله عنه وأرضاه عادلًا حكيمًا حليمًا، يحسن الدفاع عن ملكه، وينشر الإسلام في خارج ممالك المسلمين، ويستعين بالله على ذلك، وكان من المجاهدين الأبرار، ودخل على يده الكثير، والكثير، ليس من الأفراد، بل من الأمم فى الإسلام.

وكان سيرة معاوية مع رعيته خير سيرة، وكانت الرعية تحبه حبًا شديدًا، وروى مسلم وغيره عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ، وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ، وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ، وَيَلْعَنُونَكُمْ.

فإذا كان الشعب يحب القائد، وهو يحبهم، فهذا من خيار الأئمة، وإذا كان يبغض الشعب، والشعب يبغضه، فهو من شرار الأئمة، وهذا مقياس ثابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا يتسع المقام هنا للحديث عن معاوية رضي الله عنه وسنفصّل ذلك في موضعه، وما يهمنا هنا هو أن نقول أن عثمان رضي الله عنه لم يستحدث تولية معاوية بن أبي سفيان، بل فعلها من قبله من هو خير منه.

- التهمة العاشرة: أنه ولّى عبد الله بن عامر بن قريظ على البصرة، وهو من أقاربه.

عبد الله بن عامر هذا من بني أمية من جهة الأب، ومن بني هاشم من جهة الأم، فأم جدته الكبرى عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما ولد عبد الله بن عامر بن قريظ أُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لأهله: هَذَا أَشْبَهُ بِنَا مِنْهُ بِكُمْ.

ثم تفل في فيه فازدرده، فقال صلى الله عليه وسلم: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَسْقِيًّا.

فكان رضي الله عنه لا يعالج أرضًا إلا ظهر منها الماء.

ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في الإصابة.

ويُعدّ عبد الله بن عامر من أشهر الفاتحين في الإسلام، فقد فتح خراسان كلها، وأطراف فارس، وساجستان، وأعاد فتح كرمان بعد نقضها للعهد، وكان هذا الجهاد سببًا في تقويض آمال المجوس في استعادة ملكهم، ومن ثَمّ يكنّون له هذا الحقد العظيم في نفوسهم، وعندما انطلق الشيعة من تلك الأراضي أخذوا يطعنون في من قوضوا ملك فارس من أمثال المجاهد عبد الله بن عامر بن قريظ الذي فعل هذا، ولم يكن يبلغ من العمر سوى خمسة وعشرين سنة، قال ابن كثير في البداية والنهاية:

هو أول من اتخذ الحياض بعرفة لحجاج بيت الله الحرام، وأجرى إليها الماء المعين.

وقال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: إن له من الحسنات، والمحبة في قلوب الناس ما لا يُنكر.

- التهمة الحادية عشرة: أنه ولّى مروان بن الحكم وكان قريبًا له.

والواقع أن مروان بن الحكم لم يُولّ، وإنما كان عثمان رضي الله عنه يستشيره في كثير من الأمور، وكان يقربه إليه، ولم يولّه إمارةً من الإمارات، يقول القاضي ابن العربي في العواصم من القواصم: مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين.

ومن الصحابة من روى عن مروان بن الحكم رضي الله عنه الحديث كسهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه وهذا في البخاري، وروى عنه أيضًا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعًا، وإذا كان زين العابدين قد وثق في حديث مروان بن الحكم، فإن هذا من أقوى الأدلة على الشيعة، لأن زين العابدين في زعمهم الإمام الرابع من الأئمة، وهو معصوم عندهم، وروى عن مروان بن الحكم أيضًا سعيد بن المسيب إمام التابعين، كما روى عنه عروة بن الزبير، وعراك بن مالك، وهؤلاء من كبار أئمة التابعين، وكثير غيرهم روى عنه، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب (الشيعة والتشيع) لإحسان إلهي ظهير، ولما وقع مروان بن الحكم رضي الله عنه أسيرًا في موقعة الجمل لم يؤذه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا أحد من أتباعه، وذلك لمكانته بين المسلمين، وشفع له الحسن والحسين عند أبيهما رضي الله عنهم جميعًا ليطلق سراحه، وهذا ما حدث، وفي رأي الشيعة أن الحسن والحسين معصومان من الخطأ، فضلًا عن أبيهما، والحق ما شهدت به الأعداء.

يبقى في هذا الأمر ثلاثة أسئلة هامة وهي:

1- هل في تولية بني أمية أي خطأ من ناحية الشرع؟

2- هل كان معظم ولاة عثمان بن عفان رضي الله عنه من أقاربه بالفعل؟

3- هل تولية الأقارب بصفة عامة محرّمة شرعًا أم لا؟

أولًا: كان بنو أمية من أكبر القبائل العربية الموجودة في ذلك الوقت، وكان فيهم الكثير والكثير من أهل الحكم والولاية، وكان فيهم شرف وسؤدد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليهم بنفسه في كثير من الأمور، فنجد أنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فُتحت مكة ولّى عليها عتاب بن أسيد من بني أمية، بينما كان عمره لا يتجاوز العشرين سنة، فولّاه الرسول صلى الله عليه وسلم على أفضل بقاع الأرض على مكة، وولّى صلى الله عليه وسلم على نجران أبا سفيان بن حرب، وولّى على صنعاء، واليمن، وصدقات بني مذحج خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وولّى على تيماء، وخيبر، وقُرى عرينة عثمان بن سعيد بن العاص الأموى، وولّى على البحرين إبان بن سعيد بن العاص، بعد العلاء بن الحضرمي، وقد كان العلاء أيضًا حليفًا لبني أمية، واستعملهم بعد ذلك أيضًا الصديق أبو بكر، والفاروق عمر رضي الله عنهما، وزاد عمر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان، ونعرف أن الصديق رضي الله عنه ائتمن يزيد بن أبي سفيان على ربع الجيش الخارج للشام.

بنو أمية إذن لا يستطيع أحد أن ينكر فضلهم في التاريخ، فهم الذين ثبتوا دعائم الدولة الإسلامية، ونشروا الإسلام في بقاع كثيرة، وسيأتي بيان ذلك في موضعه.

أما السؤال الثاني: هل كان معظم ولاة عثمان بن عفان رضي الله عنه من أقاربه بالفعل؟

المناصب العليا في عهد عثمان رضي الله عنه، وتحديدًا في الوقت الذي جاء فيه رءوس الفتنة يطلبون عزله رضي الله عنه كانت هذه المناصب على هذا النحو، كان على القضاء زيد بن ثابت الأنصاري، وكان على بيت المال عقبة بن عامر الجهني، وكان على إمارة الحج عبد الله بن عباس الهاشمي، وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وسماك الأنصاري، وعلى إمارة الحرب القعقاع بن عمرو التميمي، وعلى الشرطة عبد الله بن قنفذ من بني تيّم.

فهذه المناصب الستة العليا في الإمارة لم يكن فيها أحد من بني أمية.

أما ولاة عثمان بن عفان رضي الله عنه على البلاد المختلفة، فكانوا على هذا النحو:

كان على اليمن: يعلى بن أمية التميمي.

وكان على مكة: عبد الله بن عمرو الحضرمي.

وعلى همذان: جرير بن عبد الله البجلي.

وعلى الطائف: القاسم بن ربيعة الثقفي.

وعلى الكوفة: أبو موسى الأشعري.

وعلى البصرة: عبد الله بن عامر بن قريظ.

وعلى مصر: عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

وعلى الشام: معاوية بن أبي سفيان.

وعلى حمص: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي.

وعلى قنسرين: حبيب بن مسلمة القرشي الهاشمي.

وعلى الأردن: أبو الأعور السلمي.

وعلى فلسطين: علقمة بن حكم الكنعاني.

وعلى البحر الأبيض المتوسط: عبد الله بن قيس الفزاري.

وعلى أذربيجان: الأشعث بن قيس الكندي.

وعلى حلوان- في أرض فارس-: عتيبة بن النهاس العجلي.

وعلى أصفهان في عمق فارس: السائب بن الأقرع الثقفي.

ولا نلمح في كل هذه الولايات إلا اثنين فقط من أقارب عثمان رضي الله عنه هما: عبد الله بن السائب بن قريظ، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.

وكما ذكرنا أن (مروان بن الحكم) لم يُولّى، والوليد بن عقبة، وهو من أقارب عثمان رضي الله عنه، ولكن من جهة الأم، وليس من بني أمية، وكان معزولًا في زمن هذه الفتنة، وسنفصّل في أمره في موضعه.

فمع عظمة بني أمية، وسُؤْددهم، وشرفهم، وكونهم أهلًا للولاية، والإمارة، إلا أننا لا نرى منهم في الإمارة إلا اثنين فقط، مما يدحض هذا الافتراء الذي يزعمه الشيعة.

أما السؤال الثالث: هل تولية الأقارب بصفة عامة محرّمة شرعًا أم لا؟

والجواب أنه ليس هناك أي دليل شرعي على منع، أو تحريم تولية الأقارب ما داموا يستحقون الإمارة، والشيعة الذين يهاجمون عثمان رضي الله عنه في هذا الأمر نقول لهم: إذا نظرنا إلى حال الولاة في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نرى أنه كان على اليمن ثم البصرة عبد الله بن عباس وهو ابن اخيه، وكان على مكة قثم بن العباس بن عبد المطلب، وهو ابن أخيه، وعلى مصر محمد بن أبي بكر ربيبه- ابن زوجته التي كانت زوجة لأبي بكر رضي الله عنه فلما توفي عنها تزوجها علي رضي الله عنه- وعلى خراسان جعد بن الهبيرة، وهو صهر وابن أخت علي بن أبي طالب، وعلى المدينة المنورة ثمامة بن العباس في وقت، وسهل بن حنيف في وقت آخر، وكان على العسكر ابنه محمد بن الحنفية، وسمي بذلك لأنه أمه كانت من سبي بني حنيفة في موقعة اليمامة، وكان على غمارة الحج سنة36 هـ عبد الله بن العباس، و37 هـ قثم بن العباس و38 هـ عبيد الله بن العباس.

وهذا كله ليس طعنًا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأن هؤلاء جميعًا مستحقون للإمارة، ولهم من المكانة، والفضل، والأهلية ما يؤهلهم للإمارة، ولكن الشيعة يحاولون الطعن في أمر فعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خلافته لما رأى أن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، بل إن الشيعة يزعمون أن عليًا رضي الله عنه أوصى بالخلافة للحسن، ثم الحسين، ثم ابن الحسين، وهكذا، وهذه الوصاية المزعومة المكذوبة أشد من تولية الأقارب.

فالولاية إذن أمر يجتهد فيه أمير المؤمنين حسب ما يرى، وحسب من يصلح أن يكون أهلًا للإمارة، سواء أكان قريبًا له، أو غير قريب، بل إن له أن يعزل الفاضل، ويولّي المفضول إن رأى في ذلك مصلحة للمسلمين، أو دفع فتنة عنهم، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما عزل سعد بن أبي وقّاص، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وخال الرسول صلى الله عليه وسلم، والوحيد الذي افتداه الرسول صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه، وولّى بعده من هو أقل منه درجة عبد الله بن عبد الله بن عتبان، ثم زياد بن حنظلة، ثم عمار بن ياسر، ولم ينكر عليه أحد ذلك.

ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولّى زياد بن أبي سفيان، والأشتر النخعي، ومحمد بن أبي بكر، وبلا شك أن معاوية بن سفيان أفضل من هؤلاء، ومع ذلك ولّاهم وله في ذلك اجتهاده وتأويله.

- التهمة الثانية عشرة: أنه ولّى الوليد بن عقبة على الكوفة، وهو فاسق.

وبداية يَرُدّ القاضي ابن العربي في العواصم من القواصم قائلًا أن من فسّق الوليد بن عقبة فهو فاسق، ففي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه استأمنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر على الرسائل التي كانت بينه، وبين خالد بن الوليد في موقعة المزار، فكان هذا سرًا خطيرًا في الحرب بين الفرس، وبين المسلمين، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه أيضًا أرسله مددًا على رأس قوة إلى عياض بن غنم في دومة الجندل، وفي سنة 13 هـ تولّى لأبي بكر الصديق صدقات قضاعة، فكان هو الذي يجمع الصدقات لأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبو بكر رضي الله عنه شديد الدقة في اختيار الأمراء.

وعينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على إمارة قبائل بني تغلب، وتنوخ، وربيعة، وعرب الجزيرة، ليحمي ظهور المسلمين، وقام بهذه المهمة خير قيام، وقد بدأ رضي الله عنه ينشر الدعوة في القبائل النصرانية الموجودة بتلك المنطقة حتى اشتكت هذه القبائل إلى عمر رضي الله عنه أن هذا الرجل يخرج شباب، وأطفال قبائلهم من النصرانية إلى الإسلام، فكانت هذه هي تهمته، فكان رضي الله عنه نعم المجاهد الشاب، ونعم الداعية في سبيل الله تعالى.

وفي عهد عثمان رضي الله عنه تولّى أمر الكوفة، وظل في إمارته خمس سنوات كاملة، يحبه أهل الكوفة ويحبهم، وكان الزائرون لا ينقطعون عن بيته يطعمهم، ويسقيهم، وكان الناس في رخاء شديد في عهد الوليد بن عقبة، فقد كان صاحب فتوحات عظيمة في أراضي الفرس، وكان رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم.

إذن فلِمَ الطعن فيه ووصفه بأنه فاسق من قِبل الشيعة؟!

احتجوا أولًا بالآية الكريمة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] {الحجرات:6}.

وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا، وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع الوليد ظنا منه أنهم يريدون قتله، فقال يا رسول الله:

إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة.

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذا أتاه الوفد فقالوا:

يا رسول الله، إنا بلغنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه، وغضب رسوله. فأنزل الله تعالى الآية.

وليس هناك حديث صحيح، أو متصل يقول إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة، وهو رضي الله عنه عندما أسلم عام الفتح كان في جملة الصبيان 8 هـ، فكيف يرسله الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الشأن العظيم، فمن الواضح أنه كان صغيرا، وهذا يدلنا أيضا أنه كان في ولايته في عهد أبي بكر وعمر دون العشرين، وكانا شديدا الثقة به، ومن المحال أن يرضيا عنه إذا وصفه القرآن بالفسق.

وادعوا عليه أيضا أنه كان يشرب الخمر، وقد اتهم بهذا؛ لأنه كان لا يخشى في الله لومة لائم، ولأنه أقام الحدود على من ارتكب ما يوجب حدا من أهل الكوفة، كما أنه أقام حد القتل على ثلاثة قتلوا رجلا، وشهد عليهم أحد الصحابة وابنه، فأحرق ذلك قلوب آباء هؤلاء الثلاثة، وكانوا جميعا من الأشرار المشهورين وكان أحدهم قد غضب عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وطرده من المدينة، فذهب إلى الكوفة، وكان سبب طرده أنه تزوج من امرأة قبل انتهاء عدتها من زوجها الأول، فهؤلاء الموتورون المصابون في أبنائهم ذهبوا إلى عثمان رضي الله عنه، وادعوا على الوليد بن عقبة ظلما، وزورا أنهم شاهدوه يشرب الخمر، وأرسل عثمان رضي الله عنه إلى الوليد بن عقبة فلما أتى قال له عثمان:

إنهم يشهدون عليك أنك قد شربت الخمر، ورأوك سكران تتقيأ.

فحلف الوليد أنه لم يفعل، فقال عثمان رضي الله عنه:

نقيم الحدود، ويبوء شاهد الزور بالنار.

مع أنه قريبا له من ناحية الأم وقيل: أخوه لأمه، وأقام عليه الحد، وقيل: الذي جلده هو علي بن أبي طالب، وبعدها عزله عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وعلى فرض أن هذا الذنب قد حدث منه، فالذنوب لا تسقط العدالة ما دام الإنسان قد تاب منها، وقد أقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد على قدامة بن مظعون رضي الله عنه، وهو من قدامى الصحابة، وممن هاجر الهجرتين، وشهد بدرا، فلما شرب الخمر أقام عليه الفاروق الحد، ولم ينقص ذلك من قدره؛ لأنه تاب من ذنبه.

فهذه هي قضية الوليد بن عقبة رضي الله عنه المجاهد الذي كان له الفضل الكبير في الكثير من الفتوحات الإسلامية.


التهم الأخرى الموجهة إليه رضي الله عنه
- التهمة الثالثة عشرة: أنه أعطى مروان بن الحكم خمس غنائم إفريقية.

وهذا الأمر بداية لم يصح له أي سند، ولا توجد رواية واحدة صحيحة تؤكد هذا الخبر، وإذا طالعنا الروايات التي تذكر هذا الأمر نجدها ترجع إلى أحد هؤلاء: إما الواقدي وإما محمد بن هشام الكلبي وإما أبو مخنف لوط بن يحيى، وجميعهم كما نعرف من الشيعة الوضاعين الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة، ويفترون عليهم.

والصحيح أن عثمان رضي الله عنه أعطى خمس الخمس لعبد الله بن سعد بن أبي سرح رضي الله عنه، وكان قد قال له أنه إن أبلى بلاء حسنا في فتح إفريقية فسوف يعطيه خمس الخمس تشجيعا له على هذا الأمر، وقام عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالفعل بفتحها بالفعل، وأعطاه عثمان رضي الله عنه خمس الخمس كما وعده، فجاء مجموعة من إمرة الجند الذين هم تحت عبد الله بن سعد أبي سرح إلى عثمان، وقالوا له: إن عبد الله بن سعد قد أخذ خمس الخمس.

فقال عثمان: إني أنا الذي أمرت له بذلك.

قالوا: فإنا نسخط ذلك.

قال: فإني أسأله فإن رضي رددته.

فاستأذن عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح في رد المال فرده، مع أن هذا الأمر جائز شرعا، وفعله من هو خير من عثمان رضي الله عنه، فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأقطعوا القطائع والأعطيات لبعض الناس، إما ترغيبا لهم، وتأليفا لقلوبهم، وإما جزاء لهم على حسن البلاء، وقد ذكر الكثير من هذه الأمثلة أبو يوسف في كتابه (الخراج).

- التهمة الرابعة عشرة: كان عمر يضرب بالدرة- عصا صغيرة- أما عثمان، فيضرب بعصا كبيرة.

هذا الأمر ليس له أصل، ولا سند، ولا يصح فيه حديث واحد.

- التهمة الخامسة عشرة: علا على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل عنها أبو بكر وعمر.

يقول القاضي ابن العربي في العواصم من القواصم:

لا يصح لهذه الرواية إسناد، ولو صح إسنادها فلم ينكر عليه أحد من الصحابة هذا الأمر، ولو كانوا أنكروه، فلا يحل ذلك دمه بحال من الأحوال. وقال محب الدين الخطيب في تعليقه على العواصم من القواصم:

لو صح هذا الأمر، فله التأويل الواضح، وذلك لأن المسجد النبوي في عهد عثمان رضي الله عنه اتسع اتساعا كبيرا، ومن حر مال عثمان رضي الله عنه، وأصبحت مساحته مائة ذراع في مائة وعشرين ذراعا، فلو وقف على الدرجة الأخيرة من المنبر لما رآه الناس، فاعتلى حتى يراه الناس، هذا إن صحت الرواية القائلة بأنه علا على الدرجة التي كان يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- التهمة السادسة عشرة: لم يحضر بدرا.

- التهمة السابعة عشرة: انهزم وفر يوم أحد.

- التهمة الثامنة عشرة: غاب عن بيعة الرضوان.

وقد ذكرنا الرد على هذا النقاط قبل ذلك عندما ذكرنا سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ويكفينا ما قاله عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، والرواية في البخاري عن عثمان هو ابن موهب قال:

جاء رجل من أهل مصر حج البيت، فرأى قوما جلوسا فقال:

من هؤلاء القوم؟

فقالوا: هؤلاء قريش.

قال: فمن الشيخ فيهم؟

قالوا: عبد الله بن عمر.

قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟

قال: نعم.

قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟

قال: نعم.

قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟

قال: نعم.

قال: الله أكبر.

قال ابن عمر: تعال أُبَيّن لك، أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له.

وأما تغيبه عن بدر، فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ.

وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى:

هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ.

فضرب بها على يده فقال:

هَذِهِ لِعُثْمَانَ.

فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك.

- التهمة التاسعة عشرة: لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان، وكان عبيد الله بن عمر، قد تيقن من أن الهرمزان قد شارك في الإعداد لقتل أبيه عمر بن الخطاب، فقتله.

هذه قضية شائكة للغاية، فقد قُتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 23 هـ على يد أبي لؤلؤة المجوسي، وقَتَل أيضا سبعة من الصحابة، وأصاب كثير غيرهم، وقتل نفسه بعدها مباشرة، ولم يمت عمر رضي الله عنه في اليوم الذي طعن فيه 27 من ذي الحجة، بل مات بعدها في آخر ليلة من شهر ذي الحجة 23 هـ، في هذا الوقت يأتي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويقول أنه رأى الهرمزان، وهو قائد فارسي قديم، خالف عهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خالف عهده مع عمر بن الخطاب ثلاث مرات، ثم أعلن إسلامه، وبقي في المدينة، رآه يتناجي في السر مع أبي لؤلؤة المجوسي، فارتاب في أمرهما، فاقترب منهما، ثم هجم عليهما فجأة، فسقط منهما خنجر له رأسان، فاذهبوا فالتمسوا الخنجر الذي قتل به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهبوا وبحثوا عنه فوجدوه بمواصفات الخنجر الذي ذكره عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فتيقن القوم أن الهرمزان مشارك لأبي لؤلؤة المجوسي في التخطيط، والحض على قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فسمع بذلك عبيد الله بن عمر بن الخطاب، فأمسك- أي لم يتصرف- حتى مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فحمل سيفه، وخرج، فقتل الهرمزان، فكانت تلك قضية شائكة، ولننظر إلى مدى العدالة في الدولة الإسلامية اجتمع عثمان رضي الله عنه بكبار المهاجرين، والأنصار رضي الله عنهم جميعا، هل يقام عليه الحد على ابن الخليفة الذي قتل رجلا من المتيقن به لدى الجميع أن أعد وخطط لمقتل أبيه الذي كان الخليفة، وأخذ الصحابة يتداولون الأمر، فقال عثمان رضي الله عنه:

أشيروا عليّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، وكان هذا بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاثة أيام، وكان عبيد الله بن عمر في تلك الفترة محبوسا في بيت سعد بن أبي وقاص.

فقال علي بن أبي طالب: أرى أن تقتله.

فقال المهاجرون والأنصار:

يُقْتل عمر بن الخطاب بالأمس، ويُقْتل ابنه اليوم.

فقال عمرو بن العاص:

يا أمير المؤمنين إن الله أعفاك، أن يكون هذا الحدث كان، ولك على المسلمين سلطان، إنما كان الحدث، ولا سلطان لك.

فقال عثمان بعد أن سكت برهة:

أنا ولي الذي قتل، وقد جعلتها دية، واحتملتها من مالي.

ويعلق ابن تيمية في منهاج السنة النبوية على هذا الأمر فيقول:

لو كان القاتل متأولا، ويعتقد حل القتل لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة قد تدرأ عنه القتل.

وفي هذه الحالة التأويل قوي جدا، وشهادة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق من الواضح أن الهرمزان كان يخطط مع أبي لؤلؤة المجوسي لقتل عمر رضي الله عنه، ووجد الخنجر الذي رآه عبد الرحمن بن أبي بكر، وقتل به عمر رضي الله عنهم جميعا على يد أبي لؤلؤة، وبعد موت عمر رضي الله عنه، وقبل اختيار عثمان لم يكن للمسلمين ولي فكان عبيد الله ولي أبيه، فأخذ له بحقه في رأيه، ولم يقر الصحابة رضي الله عنهم هذا الاجتهاد، والتأويل بالكلية من عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما، ومن ثَمّ دفع عثمان رضي الله عنه الدية من حر ماله.

ودار حوار بين عبد الله بن عباس حبر الأمة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فبعد طعن عمر رضي الله عنه نادى على ابن عباس رضي الله عنه وقال له:

كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر الفرس في المدينة.

أي أنهما كانا من مؤيدي أن يكثر الفرس في المدينة، ويسلموا، ويعيشوا فيها، ويقتربوا من الإسلام، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكره ذلك ويرى فيهم الغدر.

فكان رد عبد الله بن عباس:

إن شئت أن نقتلهم فعلنا.

ليس الهرمزان فحسب، بل كلهم، وذلك لما ظهر الفساد منهم، ولا بأس بأن يقام عليهم حد الحرابة وللوالي أن يقتلهم.

فقال له عمر رضي الله عنه:

كذبت، أفبعد أن تكلموا بلسانكم، وصَلّوا إلى قبلتكم.

الشاهد في الأمر أنه في هذه الفتنة- فتنة مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه- كان من المسلمين من يرى جواز قتل الفرس جميعا الذين هم بالمدينة؛ لأنهم أفسدوا في الأرض، وخططوا لقتل الخليفة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وكان من يرى ذلك هو عبد الله بن عباس حبر الأمة، وهو بلا شك أكثر فقها وأعلم من عبيد الله بن عمر، لهذا احتمل عثمان بن عفان الدية من ماله الخاص ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان.

- التهمة العشرون: أنه كان يعطي أقرباءه، ولا يعطي عامة المسلمين.

يقول عثمان رضي الله عنه:

إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لهم، فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطائهم فإنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل مال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من المسلمين، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي في أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتت عليّ أسنان أهل بيتي، وفني عمري، ووضعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا.

ومن المعروف أن عثمان رضي الله عنه كان يعتق في كل جمعة رقبة في سبيل الله، وأقطع لعبد الله بن مسعود، ولعمار بن ياسر، ولخباب بن الأرت، وللزبير بن العوام، وغيرهم ممن ليسوا بأقاربه على الإطلاق، وتنازل رضي الله عنه لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه عن خمسين ألف درهم كانت له عليه.

ويتجاوز ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية) إلى أكثر من ذلك فيقول:

على فرض إعطاء عثمان رضي الله عنه لمروان بن الحكم خمس غنائم إفريقية، فإن عثمان عامل على صدقات المسلمين، ويستحق من هذه الأموال حتى وإن كان غنيا، ويقول أيضا أن سهم ذوي القربى المذكور في الآية: [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ] {الأنفال:41}.

قال بعض العلماء كالحسن البصري، وأبو ثور أن المقصود بذي القربى: قرابة الإمام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطي ذوي قرابته؛ لأنه إمام المسلمين، ذلك حق لكل وال من بعده، أن يعطي من هذا السهم لأقاربه، هذا على فرض أن هذا الادعاء منهم صحيح وإن كان باطلا من البداية.

جمع المتمردون هذه النقاط العشرين، جمعوا أنفسهم من البصرة، ومن الكوفة، ومن مصر، وتوجهوا نحو عثمان بن عفان رضي الله عنه بالمدينة، ووصلوا المدينة مع ظهور هلال ذي القعدة سنة 35 هـ، وبدءوا يتحاورون في هذه النقاط مع عثمان رضي الله عنه.