عون الرحمن

قصة كاميليا شحاتة

شرح كتاب العبادات

ما هكذا تورد الابل يا جمعة!!!؟

الاثنين، 31 أكتوبر 2011

محاكمة الحوينى

محاكمة الحوينى



خالد الشافعى | 31-10-2011 00:14

لقد راعنى كما راعى كثير من المتابعين ، وأثار فينا خليطاً من مشاعر الغضب ، والدهشة ( وأيضاً الشفقة ) ، راعنا ما سمعناه عن قيام فضيلة مفتى الجمهورية برفع دعوة سب وقذف على فضيلة الشيخ الحوينى ، وقد ركبنا عجب لا نهاية له ، وأصابتنا حيرة بالغة من هذه الخطوة ، وذلك لأننا نعرف فضيلة المفتى منذ أكثر من عشر سنوات ، نعرفه ونسمعه ونراه ونتحمل إهاناته واتهاماته وافتراءاته على أبناء الحركة الإسلامية ، نعرفه منذ أكثر من عشر سنوات حليماً غاية الحلم ، وديعاً يملك صبر الجبال ، ما عرفناه قط غضوباً ولا حاسماً ولا حازماً إلا فى حالة واحدة ، وواحدة فقط ، وأقول فقط ، وأزيد فأقول فقط ألا وهو موقفه من السلفيين .
فضيلة المفتى طوال تاريخه المشرف فى منصبه ، لم نسمعه قط صارخاً ، ولم نره قط غاضباً ،ولا مهدداً ولا متوعداً إلا السلفيين ، كانت دماء المسلمين فى غزة تسيل أنهاراً دون أن نراك ناصحاً للسجان أن يمد لهم يد العون ، كانت الطغاة الذين عينوك فى منصبك ينشرون القتل والسرقة والفساد والعرى دون أن نراك مرة واحدة فقط (وأقول مرة واحدة فقط ) دون أن نراك مرة واحدة غاضباً ، منكراً (ولو من بعيد) محذراً من أن هذه المناكير هى الحالقة ، وأن هلاك الأمم إنما يكون بالمخالفات ، ما شاهدناك مرة تتبرأ من ذنب أو قرار أصدرته الدولة أو قانون سنته خالف الدين ، كانت أعداد الزواج العرفى ، والحمل السفاح ، والاغتصاب ، والزنا ، وخراب البيوت ، والعنوسة ، وقتلى الحوادث ، والاستيلاء على أموال الشعب ، وفرض الضرائب الجائرة، كان كل هذا يتغول ويزداد وينتشر ، كانت الكليبات الجنسية والأفلام الإباحية والانتقاص من الشريعة فى الكتب والجرائد والشاشات ، كان كل هذا ينمو ويتوحش أمام عينيك ، كانت دولة الكنيسة تعلو وتنمو وتتجبر ، تأمر فتطاع ، وتنهى فيسمع لها ، كان كل هذا يث أمام عينيك ، وتحت سمعك ، ولم نرك غاضباً قط ، ولا مهدداً قط ، ولا متوعداً قط ، كانت المناكير والمخالفات والمعاصى جهاراً نهاراً ، ولم نسمع قط بفتوى تحذيرية ، ولم نرك قط أخذت أدنى موقف ، كنا نقول قبل الثورة أنك مغلوب على أمرك ، لا يمكن أن تعصى لمبارك أمراً ، وأنك ربما كنت مهدداً أو مخوفاً أو تحفظ جميل الرجل لأنه هو من عينك ، فلما قامت الثورة انتظرنا أن ترحل تعبيراً عن شعورك بالذنب ، ورفضاً أن تظل فى منصب وضعك فيه الرجل الذى ظللت تدافع عنه أثناء الثورة وتستحلف المتظاهرين أن يتوقفوا .
انتظرنا أن تستقيل لأنك ترفض أن تكون فى منصب وضعك فيه المخلوع فلم تفعل ، ثم انتظرنا أن نرى مواقفاً نشعر منها أنك تريد أن تعوض ما فات ، وتصلح ماكسر ، وأن نراك وقد زال الطواغيت وانكسرت شوكة جهاز أمن الدولة نراك تتحرر من الماضى بكل ما فيه ، وأن تقوم بالحق لا تخشى فى ذلك لومة لائم ، وأن تركز جهودك على وظيفتك الأساسية التى تحصل على راتبك لأجلها من أموال دافعى الضرائب ( لأن الزكاة جمعها معطل فى بلاد أنت رأس الفتيا فيها )
انتظرنا أن يتحرر لسانك من عقدة السلفيين ، وأن تتوقف عن مضغ هذه اللبانة التى لابد أن طعمها صار فى منتهى المرارة من طول مضغك لها ، وقلنا أن هذه العقدة كانت بسبب الجهاز الأمنى البغيض ، انتظرنا كل هذا لكن المفاجأة أن ما صدر من فضيلتكم كان علينا أشد وأقسى ، ازددت انبطاحاً أمام الكنيسة ، وحقق فيلم شارع الهرم أعلى إيرادات فى تاريخ السينما ، وتوحش الليبراليون فى الحط على الشريعة ، وازددت أنت هجوماً ، وسخرية من السلفيين حتى وصفتهم بالخوارج ، بل وصل الأمر إلى رفع أمرهم إلى الباب العالى بكتابة مقالة تحذر من خطر السلفيين فى جريدة أمريكية ، ثم جاءت الحالقة يا فضيلة المفتى ، تحملت كل ما كان ، ووسعك الصبر والعفو عن كل هؤلاء ، وابتلعت كل هذه الاستفزازات لكن الذى لم تصبر على تحمله ، ولم تقدر على ابتلاعه ، وقررت ألا يمر هو كلام الشيخ أبى إسحاق الحوينى
وأنا أستحلفك بالله يا فضيلة المفتى يا رأس الفتيا فى رأس بلاد المسلمين هب أن الشيخ الحوينى أخطأ – مع أنه لم يخطأ – فهل الرد على ذلك يكون فى ساحات القضاء أم فى مجالس العلم والمناظرات ؟ الرجل لم يتهمك فى قضية شخصية الرجل اتهمك فى أمور شرعية ، أيكون الرد فى ساحات المحاكم أم أمام أكابر العلماء ؟ أيكون الرد بمحضر مكتوب أم برد علمى مشفوع بالوحى وأقوال العلماء ، فضيلة المفتى كنت أتصور أن يتحول غضب صاحب الحق إلى طلب مناظرة على الفور وعلى رؤوس الأشهاد ( أتحداك أن تفعلها ) أو مباهلة على أعين الناس ( سمعت أنك طلبت مباهلة السلفيين وأنا جاهز فحدد الزمان والمكان ) ثم إن لم يكن رأس الفتيا فى رأس العالم الإسلامى هو الأسوة والقدوة فى الحلم والعفو والصفح فمن يكون إذن ؟
هذه المحاكمة فى الحقيقة إنما هى محاكمة لك ، وإساءة لشخصك ،ودليل جديد على أن عداوتك للسلفيين فوق كل عداوة وأن الذى تبغضه لأجلهم لا علاقة له بما تتهمهم به .
فضيلة المفتى ما أهون ساحات القضاء فى الدنيا أمام قاض يجوع ويظمأ ويتعب وينسى وغاية ما يحكم به حكم هزيل مهما عظم ، لكن غداً يا فضيلة المفتى نجتمع فى ساحة رهيبة عند من لا ينسى ولا يعزب عنه مثقال ذرة ، غداً يا فضيلة المفتى نجتمع فماذا تفعل إن سألك الملك عن كاميليا وغزة وفوائد البنوك وأفلام العرى وتعطيل الحدود ومصادمة الشريعة والمسلمين فى غزة ؟ غداً يا فضيلة المفتى نجتمع فيجزى المحسن على قدر إحسانه والمسىء على قدر إساءته .

الخميس، 27 أكتوبر 2011

يا خير أجناد الأرض احذروا شرّ الأجناد

يا خير أجناد الأرض احذروا شرّ الأجناد
كنا، وما زلنا وسنظل، في صف الأمة، وفي حضن عقيدتها، ودينها، وتراثها، وحضارتها، ومع معذبيها، ومظلوميها، ومستضعفيها، ومجاهديها، وعلمائها الأفاضل .. مثلما كنا، وما زلنا وسنظل، ضد طغاتها، وفاسديها، ومستبديها، ومجرميها، وعملائها، وخونتها، ومخذليها، ومحبطيها، ومسترزقيها، وطائفييها، ورؤؤس الشر والفتن والبغي فيها .. وضد قوى الهيمنة العالمية، والاستكبار، والعدوان، التي سامت الأمة ألوان القهر من القتل والعذاب، والتجويع، والإفقار، والتخريب، والتحريف، والمساس بعقيدة الأمة، وأنبياء الله ورسله، والصحابة الكرام، منذ عشرات السنين .. كنا، وما زلنا، ولن نحيد عن هذا الطريق بعون الله، ولن نسأل الله، عز وجل، إلا الثبات على الحق، والانتصار له ولأهله، والعفو والغفران عن التقصير.

لأكثر من خمس سنوات مضت، ونحن نتولى، مختارين طائعين، الدفاع عن الأمة، ودينها، والوقوف على نوازلها، وتقصي الحقيقة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ودون تحريف أو خداع أو تزوير أو تهويل، وخضنا معارك إعلامية وحقوقية وشرعية وأخلاقية وقيمية وأكاديمية طاحنة، لم نتلون بها، ولم نداهن أو نخادع، ولم نخض فيها مع الخائضين .. وواجهنا فيها البؤس والبأساء والضراء، وكل صنوف المواقف، من الاحترام والتقدير، مرورا بالتخذيل والتشويه والتجاهل وحملات التشكيك والطعن في الأعراض وحتى الإسقاط، وانتهاء بالحرب الشعواء، بلا مبدءٍ أو أخلاقٍ أو رادعٍ من ضمير أو دين.

ما هالنا، خلال هذه المسيرة، إلا أولئك الذين يصرون على تقديم المصالح على العقائد، وبالتالي حشرنا دائما في ثنائية ظالمة لا يقبلها عقل ولا دين. فإذا حذرت هؤلاء: « إيران صفوية» قالوا لك: « من لم يكن مع إيران وحزب الله فهو ضد المقاومة»!!! فإما أن تكون معهم، فيما يؤمنون به، وإما أن تكون من المشبوهين، إن لم تكن من العملاء والمأجورين. وإذا حذرتهم من « أمريكا عدو الأمة والشعوب»، احتجوا قائلين: « لن نسمح لأحد أن يحشرنا في دعوى النظام» الذي يزعم المقاومة والممانعة.

هكذا هم أصحاب المصالح والأهواء الذين يابون أن يحتكموا للعقائد، ولو مرة في أشد النوازل خطرا على الأمة!!! فأنت بالنسبة إليهم، وفي آن واحد: « ضد المقاومة» و « مع المقاومة». هؤلاء، هم أنفسهم، « جماعة ما البديل»؟ الذين لا يريدون حتى أن يعتمدوا على أنفسهم، أو يدركوا طاقاتهم وإمكانياتهم، صارت الاستعانة عندهم بـ « الشياطين» أسهل من الاستعانة بـ «الله»، ناصر المستضعفين. وحتى بعض من حسنت نواياهم، وصحت عقائدهم، وقعوا بذات الفخ الذي وقع به أرباب المصالح، وصاروا يبررون ارتكاب المخالفات الشرعية بكفر الطغاة وظلمهم وجبروتهم، وكأن إنكار المخالفة منحت القذافي صك الغفران!!!

فقد لقي عدو الله ورسوله والمؤمنين حتفه، بأبشع صورة، هو وابنه المعتصم، ووزير دفاعه، وعددا من أعوانه. ولا ريب أنها نهاية تمناها كل من عرف هذا الطاغية المريد، وتاريخه الدموي، واستبداده العظيم، ووحشيته، وفرعنته، التي فاقت كل الحدود. وإذا ما صحت الروايات؛ فمن العجيب حقا أن يصرخ القذافي بآسريه « ارحموني .. ألا تعرقون الرحمة» أو يرد على من صفعه الأولى: « أنت بقدر ولدي»، ثم يرد على الصفعة الثانية: « أنا بقدر أبيك»!!! فمن سيرأف برجل، هدد شعبه بالقتل، واتهمه بـ« الجرذان»، ولم يرحم في حياته شيخا ولا شابا ولا امرأة ولا طفلا ولا ابنا ولا أبا؟ ومن سيبكي عليه سوى جاحد بحق الله، أو ظالم بحق نفسه، أو أن يكون مثله، أو مغفل اتخذ إلهه هواه؟

فالقذافي كفر بلسان العلماء، بعد أن تأله على الله عز وجل، وأنكر السنة، وحرف في كتاب الله، وعذب المسلمين، وقتلهم في السجون، وألقى بهم في مقابر جماعية، ونهب ثروات الأمة، وأفقر الشعب الليبي، وفرض عليه التجهيل، وألزمه بتعلم كفره، وشرد الكثير منه في المنافي، وأوقع الأذى بكل الأمة، واعتدى على الشعوب، وتاجر بها، وبعقيدتها، وقضاياها، ونسج تحالفات ألحقت أفدح الأضرار بالأمة والبلاد، وخاض حروبا إقليمية مدمرة، وسفك من الأرواح ما لا يعد ولا يحصى، ولم يعد في ملفه مقدار ذرة من خير، علها تشفع له، حتى صار لكل الأمة عنده ثأر، وجاءت نهايته مطابقة لما نقله أَبِو موسى الأشعري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال: « إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». وبالتالي فكل الأمة لها عليه وعلى نظامه حقوق ومظالم، ومن حقها أن تشهد محاكمة علنية، تقتص فيها منه ومن أمثاله من القتلة. فلماذا أسدل الستار عليه دون احترام لحقوق الناس ومظالمها سواء في ليبيا أو في خارج ليبيا؟

حين هدد سيف الإسلام بـ « أنهار الدماء» (20/2/2011) وصفناه بـ « الوضيع ابن الوضيع» وبـ « الكلب ابن الكلب»، وسألناه: « ... ضد من تطلق هذه التهديدات التي تستحق أنت وأبيك عليها، خاصة بعد تنفيذها على نطاق واسع، سحلا وتمثيلا في وسط شوارع وساحات الأرض؟». ولو قتل المعتصم وأبيه، في معركة، أو ألقى الناس القبض عليهما، وتعرضا للسحل، لقلنا بأنها فورة غضب، انتابت الذين ظُلِموا. لكن ما يستفز النفس والعقل، حقا، هو ذاك التبرير « العاطفي» لمقتل القذافي وابنه وأعوانه، واتهام « المستنكرين» لمقتله بـ « المتباكين » عليه.

بطبيعة الحال ثمة فرق، بين من تباكى عليه، جهلا أو حزنا أو خسارة لمنفعة جناها، ومن استنكر خشية من نهج انتظم، لا شريعة فيه ولا أخلاق ولا قانون. فما شاهدناه، من تصرف مشين بحق الطاغية، لا يمكن أن يبرره قانون أو شرع أو أخلاق، فضلا عما كسبه من تعاطف بعد كل ما ارتكبه من جرائم. أما المعتصم فقد كان حيا، كأبيه، وفي وضعية الأسر الهادئة، لكنه قتل .. و قتلت بقية الحاشية، وقبلهم عبد الفتاح يونس .. أما وسائل الإعلام فلم تتوقف، ومنذ شهور، عن نقل التقارير الحقوقية، وهي تتحدث عن تجاوزات، وانتقامات، وتصفيات، وإعدامات بالجملة، لمعارضين أو خصوم، لا ندري صدقها من كذبها.

لكن، طالما لا يوجد أي تفسير منطقي أو شرعي أو قانوني لما حدث سابقا، ويحدث؛ فستظل المخاوف مشروعة، والأسئلة مطروحة حول حقيقة وقائع الثورة الليبية، وإلا من يجزم بأن ما يجري وافق الشرع، بما يحفظ للناس حقوقهم، وممتلكاتهم، وحياتهم؟ ومن يستطيع أن يؤكد، أو ينفي، بأن عمليات القتل، ليست سوى إعدامات بأوامر من « الناتو»؟ إذ لا يعقل أن يكون هذا السيل من التقارير، مجرد تكهنات أو معلومات مغرضة، ولم يعد مقبولا أن نستمع لمزيد من التهديدات التي يطلقها عبد الجليل، بين الحين والحين، بالاستقالة من رئاسة المجلس الانتقالي، أو تحذيراته من « المتطرفين القلة»، أو وعوده بإجراء التحقيقات اللازمة، دون أن تتضح الصورة بما يكفي لطمأنة الناس والأمة. وإلا فمن سيأمن على نفسه وحقوقه في ظل هذا الغموض؟ ومن سيضمن ألا يتحول ما يجري إلى نهج سياسي وقانوني؟ وبالتالي إلى أدوات ابتزاز لأعضاء المجلس الانتقالي نفسه، الذين يبدو أنهم « النشوة» التي يعيشونها جعلتهم بمنأى عن المساءلة في يوم ما؟

العجيب أن وقائع الثورة الليبية تجري وكأنها في المريخ، وليس في العالم العربي. بل أن عامة الناس، وليس خاصتهم، فحسب، انقسموا حولها أكثر مما انقسموا على الثورات العربية الأخرى. وانقلب الكثير منهم عليها بعد مقتل القذافي وابنه. وبدت الثورة، لنا ولغيرنا، كأنها شأن « الجزيرة» و « الناتو» أكثر مما هي شأن الأمة. فعلامَ يصفق الناس للمجلس الانتقالي: هل على طمأنة المستشار عبد الجليل للغرب، الذي لم يحتمل تصريحا له يرى في الشريعة « المصدر الرئيسي للتشريع»!!!؟ وكأن في ليبيا نصارى حتى يكون هناك مصدر آخر للتشريع!!! أو ربما سيكون فيها نصارى فيما بعد!!! أوليست هذه العبارة اليتيمة « المصدر الرئيسي للتشريع»، شكلا ومضمونا، هي المادة الثانية من الدستور المصري، التي تخوض الكنيسة، واللبراليون والعلمانيون واليساريون والزنادقة، ضدها حربا شعواء لشطبها؟ ويهددون بلائحة المبادئ الحاكمة للدستور، أو بتنصير مصر، وطلب «الحماية الدولية»، بسببها؟

ما من ثورة حظيت بتغطية إعلامية من قناة « الجزيرة» كـ « الثورة الليبية»!!! لكن ما من ثورة حظيت بهذا الكم الهائل من الغموض كـ « الثورة الليبية»!!! فجأة ظهر مصطفى عبد الجليل يتحدث عن حكومة ليبية بالمنفى، وما هي إلا يومين أو ثلاثة، حتى تحول الحديث إلى مجلس انتقالي لم ترينا « الجزيرة» من أعضائه إلا حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، أمثال محمود جبريل وعلي الترهوني ومحمود شمام وعبد الحفيظ غوقة وعبد الرحمن شلقم، ممن وصفهم الشيخ علي الصلابي بـ « المتطرفين العلمانيين»، واتهمهم صراحة بـ « سرقة أموال الشعب الليبي» .. قبل هذا التصريح وبعده اختفى « الصلابي» من على منبر «الجزيرة»!!!

وطوال التغطية الإعلامية حرصت « الجزيرة» على التعمية التامة عن تشكيلات الثورة الليبية، المكشوفة بأدق تفاصيلها لـ « الناتو»، واستضافت، من الليبيين، من طعنوا بالجهاد والمجاهدين، واتهموهم بـ « التطرف» و « القلة» و غياب أي « تأثير» لهم، حتى جاء فرج العشي، أفندي، ليصف المقاتلين بـ « ثوار الفيس بوك»، ممن يحبون « المزيكا» و « الغُنى»!!! وكأن ليبيا خلت إلا من هؤلاء الفجرة.

وطوال التغطية الإعلامية، أيضا، حرصت « الجزيرة» على التحريض الدائم على طلب «الحماية الدولية»، وكانت ذكية، حقا، وكغيرها من القنوات العالمية، في استغفال كل الأمة حين باغتتنا، فجرا ( 18/3/2011)، من قاعة مجلس الأمن، وهو يصوت على قرار يسمح بفرض حظر جوي على ليبيا!!! بينما صمتت، صمت القبور، خلال الأيام الخمسة الماضية، عن أية مناقشة لمشروع القرار المقترح، الذي سلمه مندوبا فرنسا وبريطانيا لحكومتيهما، يوم صدور الغطاء السياسي والقانوني من الجامعة العربية ( 13/3/2011)!!! وما أن بدأ الحظر، وشرعت الطائرات بتدمير ليبيا، حتى انتشت « الجزيرة»، لكن مع الوقت، صارت تشعر بالاستفزاز، والارتباك، والعصبية، كلما « تأخرت» ضربات « الناتو»!!!

لسنا نشك في كون قناة « الجزيرة» أكثر القنوات التي قدمت التغطية للثورات. لكننا لسنا موضع خداع، ولا غبن، حتى تستغفلنا « الجزيرة»، وتستغفل معنا الأمة، فيما تبطنه من أجندات متوحشة، وهي تجهد في الزج بالأمة، ليل نهار، لتكون فريسة سهلة بين أنياب « المركز»، فضلا عن تمرير سياساته والترويج لها، والارتماء في أتون اللبرالية .. الفلسفة المحببة إلى قلبها.

فقد كانت، وما زالت، من أشد الناس عداوة، وبغضا، وتشويها، للجهاد والمجاهدين. وبدأت لبراليتها تتضح بجلاء، مع انطلاق الثورات العربية. ومن تتبع تغطيتها للثورة المصرية، لا شك أنه، أصيب بالدهشة، لتأخرها المريب إلى حدود العصر حتى دخلت على خط الثورة، في حين كانت فضائيات العالم منشغلة بالحدث المصري!!! ولا شك أنها كانت أوضح في تنكرها للثورة السورية طوال أيام عديدة، حتى صارت موضع استنكار وشبهة، على لسان بعض الفضائيات الإسلامية.

الأخطر في لبرالية « الجزيرة» يكمن في انحيازها الفاضح ضد عقيدة الأمة، وبلا أي حياء، أو مسؤولية. فما أن رحل طاغية مصر؛ حتى طالعتنا بواحدٍ من أعدى أعداء السنة والمسلمين، وكل ما يمت، بصلة، للقوى الإسلامية .. فقدمت لنا الصحفي، البائس، إبراهيم عيسى، عبر إعلان صاخب: « صالووووون إبراهيم عيسى»، وكأنها تقدم للأمة « محمد الفاتح» أو « فتح القسطنطينية»!!! لكن الفضيحة المجلجلة، والرائحة النتنة، أقفلت « الصالون» القبيح قبل أن يفتح بابه.

لذا لا عجب من « الجزيرة»، أن تصم آذانها عن الإعلام اللبرالي المصري، ورموزه، المتحالفين مع النظام البائد، ومع القوى الصهيوينة العالمية، ومراكز البحث والإعلام الدولية، المعادية للأمة، فهؤلاء الفلول المشبوهة هم الذين يقلبون الحقائق ضد الإسلاميين، جهارا نهارا، وهم الذين يعلنون عداءهم السافر ضد الإسلام، ويتطاولون على الله، عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. لا عجب أن يصيب « الجزيرة» طرش، أو حتى عمى، وهي تعلم علم اليقين، ما تخطط له كنيسة شنودة، وحلفاؤه من اللبراليين واليساريين والعلمانيين، الأعزاء على قلبها، وقلب إبراهيم عيسى، وأمثاله. ولا عجب أن تستضيف، لأكثر من مرة، امرأة معتوهة، على شاكلة وفاء سلطان، وهي تعلم أنها أفجر مخلوقات الله في عدائها للمسلمين وسب الله عز وجل.

لن تتعظ «الجزيرة» أبدا، لأنها صاحبة أجندة أشد خطرا ووحشية ممن سبقها. فهي اليوم؛ القناة الإعلامية المعتمدة، التي تروج بكل فجاجة للتدخل الدولي في الثورات العربية. فما أن انتهت من ليبيا حتى صوبت منابرها نحو سوريا. ومنذ أكثر من شهر، لم نعد نسمع، أو نرى على شاشاتها، إلا احتجاجات شعبية، ترفع يافطات تطالب بـ « الحماية الدولية»!! وكأن «الجزيرة» لم تجد من بين عشرات الاحتجاجات في المدن والأرياف إلا يافطة « الحماية الدولية»!!!! وكأن الشعب السوري يئس إلا من نصرة « الناتو»!!!

بالأمس؛ تصدرت قطر الغطاء العربي للتدخل في ليبيا، واليوم يبدو أن ليبيا الجديدة، عازمة على لعب نفس الدور، ونقل التجربة إلى سوريا .. فلديها الثأر من النظام الطائفي الذي دعم القذافي، ولديها المال، ولديها مجلس وطني « شقيق»، فما الذي سيضير المجلس الانتقالي، صاحب المليارات، أن يدفع ثلاثين أو خمسين أو مائة مليون دولار، لدعم الثورة السورية، والتمهيد لرفع يافطات « الحماية الدولية»، نكاية ببشار الأسد!!؟ وما الذي سيضير المجلس الوطني، بزعامة برهان غليون، أن يتأسى بـ« شقيقه»، ويستنجد به؛ لاسيما وأنه أكثر من حظي بالتغطية، مقارنة بـ 14 مجلسا تم تشكيلها خلال شهور الثورة؟

في 27/4/2011 ، وخلال زيارته لبنغازي، عارض السيناتور الأمريكي، جون ماكين، أي تدخل عسكري في سوريا، لكنه في 23/10/2011 أدلى، في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي بالأردن، بتصريحات قال فيها: « الآن وقد أوشكت العمليات العسكرية في ليبيا على الانتهاء، فإن التركيز سينصب مجددا على احتمال النظر في القيام بعمليات عسكرية جزئية لحماية أرواح المدنيين في سوريا»!!! ولسنا ندري كيف يمكن أن تكون هناك حماية، بنظر الدكتور غليون، بغير ما قاله « فضيلة» السيناتور؟ لكننا نخشى أن يكون البديل الذي يبحث عنه « المركز»، منذ بداية الثورة، قد صار متوفرا. ويا سعد واشنطن ولندن وباريس و « الجزيرة»، بهذه الفريسة الثمينة !!! حقا يا سعدهم!!!

هؤلاء الذين يمهدون للتدخل الدولي، ويدافعون، باستماتة، عن دعوة « الناتو»، لفرض الحظر الجوي يقولون أنهم مستعدون أن يدفعوا أي ثمن مقابل التخلص من النظام!!! أي ثمن!!! ولا ريب أن هذا الاعتقاد والسعي أبعد ما يكون عن المصالح الشرعية والدنيوية، وأقرب ما يكون إلى مصالحهم وأهوائهم. فهم بهذا الفعل إنما يعبرون عن خصومة شخصية مع النظام وليس عن مصير أمة أو عن عقيدتها، بل أنهم يحشرون الثورة السورية في مربعاتهم، ويسعون لجرها، إما إلى نهاية وخيمة ومبكرة، وإما إلى تقديم الأمة كلها وجبة دسمة على موائد اللئام. فإذا ما ظنوا، عبثا، أن لديهم ما يكفي لدفع أي ثمن؛ فسيكتشفون، متأخرين، أنهم عاجزون عن الوفاء بالتزاماتهم. فمن أين سيدفعوا البقية الباقية؟

لن يكون لديهم ما يدفعوه، حتما، إلا دمار سوريا، وذبح أهلها، وخيانة قضايا الأمة، وعقيدتها، وحقوقها، التي فرط بها النظام الطائفي، حين نصب نفسه، منذ قيامه، درعا يحمي « إسرائيل»، ويذبح الحركات الوطنية، ويمارس الابتزاز والقتل، ويهدد بإشعال الشرق الأوسط في ست ساعات. ولو أن الأمور ستسير على هذا المنوال، فما الذي سيمنع بقية الثورات العربية المنتظرة من طلب الحماية الدولية أسوة بمن سبقها؟ فهل يدرك هؤلاء أن مراهناتهم على « المركز» تعني التسليم التام بسياساته ومطالبه وشروطه؟ وهل يدركوا عواقب ما يروجون له من كوارث، وهم يحبطون الأمة، ويلقون بالثورات العربية في أحضان « الناتو»؟

هؤلاء لا يؤمنون قط بوجود مشكلة بين الأمة و « المركز»، وعلى رأسه الأمريكيين. وهم أشبه ما يكونوا بالنظم السياسية المستبدة. ففي أول اختبار جدي صاروا، مثلها، يسابقون الزمن في تحقيق مصالحهم، ولو في عقر ديار الأعداء العقديين للأمة. وفي المحصلة لا فرق بينهم وبين النظم المستبدة، أو القوى السياسية الحليفة لها، أو الأيديولوجيات الوضعية الهدامة. هؤلاء دائما ما يبحثون عن المساومات، وعن أسهل الطرق، ولو على حساب الأمة، ولو على حساب عقيدتها ومصيرها ودماء أهلها.

ففي سوريا، وبحسب هؤلاء، فإن 23 مليون، سوري، أغلبيتهم الساحقة من أهل السنة، عاجزون اليوم عن مواجهة نظام طائفي تجتمع، على إسقاطه، كل أمة المسلمين!!! وكأنهم يقولون للعالم نحن أمة عاجزة !!! فإنْ كنا كذلك؛ فما من حاجة لنا بالتحرر، وما من حاجة لنا بالاحتجاج ودفع الظلم. لأننا، قبل التدخل الدولي، سنكون ملزمين بالإجابة على السؤال: هل سيأتينا « الناتو»، حقا، بالحرية على أجنحته البريئة؟ وهل نحن قادرون على الاحتفاظ بها؟ وهل سنجرؤ على مواجهة « إسرائيل»، أو انتزاع هضبة الجولان منها، وإعادة المهجرين من أهلها إليها؟ وهل نحن قادرون على التخلص من الهيمنة ونحن نستعين برموزها وقواتها؟

هؤلاء كانوا يتمسكون، في بداية الثورة، بتعبير « السلمية»، ويحاربون كل من يتحدث عن مجاهدة النظام، ولا يطيقون سماع كلمة « جهاد» ولا « روافض» ولا حتى « علوية». لكنهم اليوم يتحدثون عن كل شيء، ويحرضون بأقصى طاقاتهم، على طلب « الحماية الدولية»، ولا يرتضون حتى نصيحة، ويزعمون أنهم يعرفون عقيدتهم ولا يحتاجون من يذكرهم بها!!! وهي نفس مواقف الليبيين في الأيام الخمسة الأولى حين وصلت الثورة إلى أبواب ثكنة العزيزية دون حاجة لـ « الناتو»!!! لكنهم بعدها انقلبوا مطالبين بسرعة فرض « الحظر الجوي»!!! ويا له من حظر!!!

في ليبيا ثمة كعكة كبيرة من النفظ، تتربع على ساحل طويل يطل على أبواب أوروبا. وثمة بلاد صارت موطئ قدم لـ « المركز»، في حربه على الأمة ومراقبتها في عقر دارها، والتدخل فيها بأسرع الأوقات وأسهل السبل. فماذا يوجد لدى سوريا، من مكاسب سيحققها الغرب، غير « أمن إسرائيل»، والعمر المديد لها، ونظرية « التوازن» التاريخية؟ والمشروع « الصفوي» الذي سيظل يعمل بأريحية تامة؟ ألم تكن عسكرة الثورة السورية، يا دعاة « الحماية الدولية» أقل كلفة، من إنعاش « سايكس - بيكو»، وتخريب البلاد، وتحريف العقيدة، ومسخ أخلاق الأمة؟ بلى.

يا أهل الشام الأحرار

• الناس في تدافع رباني التوجيه .. ولن يستطيع أحد وقفه، أو حرفه، أو التحكم به، أو التسلط عليه ... فهي سنة الله في خلقه ... وتشرفنا نحن العرب المسلمين بشرارتها ... كما سبق وشرفنا الله بمبعث خاتم الأنبياء والرسل .. وعظماء الصحابة ..

• والأمة اليوم؛ في دورة تاريخية يمكن أن تكونوا، أنتم بالذات، مفتاحها إلى الدورة الحضارية، حيث يعز فيها الإسلام والمسلمين ... فأنتم خير أجناد الأرض ..

• وكل الأمة تتطلع إليكم .. وتثق بكم .. إيمانا، منها بعقيدتها، أنكم ملاذها في زمن الفتن والملاحم ... وما يصيبكم يصيب غيركم من الأمة ...

• فلا تثقوا بغير الله، عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام ... وتراث السلف الصالح .. وإن الله يدافع عن الذين آمنوا ... فاصبروا وصابروا ورابطوا ...

• ولا تستعينوا بشرّ أجناد الأرض .. ولا تقبلوا بأية دعوى للتدخل الدولي فتحبط أعمالكم .. وتحبطوا، معكم، أمة الإسلام برمتها ... ولا تصدقوهم أو تنتظروا منهم خيرا .. واعلموا أن الأمة لن تسقط بأيدي دعاة التدخل .. وأن دين الله ماض بعز عزيز أو بذل ذليل .. وسينصر الله من ينصره ..

وفقكم الله، ونصركم، وحفطكم، ورحم قتلاكم، وشافى جرحاكم، وفك أسراكم، وواسى ثكلاكم، ورزقكم من حيث لا تحتسبوا ..

إبليس وبعض حكامنا!؟

إبليس وبعض حكامنا!؟



عبد السلام البسيوني | 27-10-2011 00:44

أتعجب كثيرًا حين أقارن بعض حكام العالم الثالث وأعوانهم الأغبياء، بإبليس لعنه الله تعالى؛ لأصل بعد المقارنة أنهم أشد منه الشيطان شيطنة، وغباء، في تماديهم، وعتوهم، وأذاهم، وغلوهم، وأنه لعنه الله (أذكى) منهم كثيرًا؛ إذ إنه حين يجد نفسه قد اقترب من التورط أو الوقوع في حفرة مهلكة، تراه يتراجع، ويهرب من الموقف، ويخلص نفسه، دون مكابرة، ولا (لماضة)..
وقد حدث فعلاً أن تورط لعنه الله يوم بدر - حين حرض قريشًا، ومن معها، على استئصال الإسلام والمسلمين - فلما رأى الملائكة في النقع هابطة تنصر المسلمين، (نكص على عقبيه) وقال لمشركي قريش: (إني بريء منكم؛ إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله)!
لكنك لو جئت للتاريخ متأملًا لتأكدت أن بعض الحكام، وأعوانهم من أهل الطغيان، والتطاول على الرحمن، عميان لدرجة نطح الحائط في الجدار ألف مرة، حتى يتفجر رأسهم كبطيخة ألقيت من الدور السابع، ومع هذا لا يفهمون!
ولأدركت أيضًا أنهم أغبياء بامتياز - لدرجة الوقوع في الحفرة ذاتها مليون مرة!
وحمقى لدرجة أن المّخرج من الأزمة يكون أمام عيونهم واسعًا واضحًا منيرًا (بيقول أنا أهه) فيتنكبونه، ويستدبرونه، ويمشون عكسه تمامًا، حتى يدمروا أوطانهم وأنفسهم؟
فهاهو سيدنا هود ينذر قومه بالأحقاف، ويذكرهم بالله تعالى وبطشه الشديد، فيتمادون في الكفر، والرفض، والتحدى، حتى بلغ من عمى بصائرهم أن تحدوه، وطلبوا منه أن يرسل ربه عليهم عذابه الذي أوعدهم به ،في هيئة سحاب (فأتنا بما تعدنا؛ إن كنت من الصادقين)! فلما رأوا السحاب العذاب فوق رؤوسهم قادمًا يملأ الأفق ليملأها عليهم نارًا، ويرسلهم إلى جهنم وبئس القرار، لم يقولوا: تبنا إلى الله/ نستغفر الله/ صدق هود! بل قالوا: ليس هذا عذابًا، وليس شيئًا مخوفًا، بل سحابًا يحمل المطر الذي نحن في حاجة إليه بعد القحط (قحط الأرض، وقحط القلوب) فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم، قالوا: هذا عارض ممطرنا، فقال نبيهم لهم: يا عميان يا معاندون، إنه ليس سحابًا مطيرًا: (بل هو ما استعجلتم به: ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها)!
وفرعون الحمار رأى من آيات ربه لموسى عليه السلام ما يجعل العاقل يتعظ، والمارق يزدجر، والغافل يدكر، ومع هذا تمادى في غبائه، وسار وراء موسى عليه السلام، حتى ضرب البحر بعصاه (فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم) فلم يفهم الغبي أن هذا الانفلاق وارتفاع الماء هو قبره قد فغر فاه، ليلتقمه، وفلوله، ومرتزقته، وملأه معه، لينتهوا إلى جهنم وبئس المهاد!
ووزير الداخلية الغبي، وأذنابه من أباطرة التعذيب في السجون التي تزيد عن الجامعات والمعامل عددًا، لم يتعظوا بفعل الله تعالى بالمجرم حمزة البسيوني، ففاقوه جرأة وفجورًا، وأمعنوا في النكال والخبال، وسقوا الأبرياء الوجع كأسًا، والقهر جرعًا، والعذاب عبًّا.. عليهم من الله ما يستحقون!
ولسان حال سادتنا وكبرائنا من الفراعين الجدد أن ما أخذناه بالقوة لا نتركه إلا بالقوة، ما أخذناه بالانقلابات والمؤامرات، والكذب، والخديعة، والبطانة الفاسدة، والإعلام الخؤون، لن نتخلى عنه ولو (بطلوع الروح)!
ما خططنا له، وتفنّنا في تمريره، وأقمنا له السرادقات، والمسرحيات، والاحتفالات، والمؤامرات، والتلفيقات، وأقمنا له المعتقلات، والسجون، والمجازر، لن نتخلى عنه إلا بمجازر ومؤامرات وتلفيقات، ومذابح وقصف وسحل، وبحر دم لا تنساه الأجيال!
ما سخرنا له الرقاصين والمشخصاتية والمغنواتية والمنظراتية والسياسجية والحلنجية وشيوخ الزور، وما بعنا له البلد لأعدى أعدائها، وأخصم خصومها لا ننزل عنه هكذا بطلب طالب، أو ثورة ثائر، حتى لو ثار الشعب كله، وطلب الكون كله!
ما استمتعناه به لا نتخلى عنه، ولا نشبع منه حتى لو جثمنا على قلوبكم عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، بل ولا أربعين ألف سنة!
لقد قالها متعلمهم ومثقفهم وطبيبهم الذي لا يزال شبيحته يقطعون رقاب الناس من الحق كالخراف: هذا الحكم أخذناه بالقوة، ولن نتركه ولو بالقوة!
لقد (غار) الجرذ قذاف الدم، ذلك النرجسي الذي لم ير نفسه في مرآة حقيقية، وأظن أن من حوله من الحرس، والوزراء، والمنتفعين، والمنافقين، والحرس النسائي ذي المجانص، كانوا يقنعونه بتطرف أنه الرجل الأوحد، والزعيم الأمجد، والشيك الأنيق، ذو القوام المشيق والحس الرقيق، والشعر الحريري والصوت الأثيري، الخنفس الرِّوش، الحليوة أبو عيون دبلانة، وجفون نعسانة، الذي ظل متفرعنًا لحد الغباء في شكله وهيئته، وخطوته ونبرته، وزيه تسريحة شعره.. حتى أرانا الله فيه العبرة، فأمسكه الثوار من قفاه وقد أوى إلى ماسورة مجارٍ واسعة اختبأ بها، ولعله كان يصرخ فيهم عند سقوطه في مصيدة الفئران: من أنتم؟ من أنتم؟ أنا الزعيم؟ أنا الأول والآخر والظاهر والباطن!؟
فيالله ما أغبى، وما أحقر، وما أشد عمى، وأطمس بصيرة:
إن الزعيم المبارك لم يعتبر بمصير الزين!
وإن الصالح لم يعتبر بمصير المبارك!
وإن المعمر لم يعتبر بمصير الصالح!
فهل سيعتبر بشار بمصير المعمر؟
وهل سيعتبر فراعين العرب الآخرون وعساكرهم بمصير بشار القريب إن شاء الله!؟
صدقوني: لن يعتبروا، ولن يفهموا لأنهم ليسوا أذكى من فرعون الحمار القديم، ولا الله يكرمكم الجديد، ولا كل المتفرعنين الجرذان!
أتدرون لماذا؟
إنه العمى الذي يصيب المتفرعنين والمتجبرين!
والوسوسة التي يلقيها هاماناته وقوارينه في أذنيه!
والاغترار بالدعم الإسرائيلي لنظامه!
والوعود العربية بحماية الدولة الصهيونية!
لقد كانوا أمثاله رؤساء، وجلسوا في الحكم أكثر مما جلس، وقدموا لإسرائيل والغرب أكثر مما قدم.. لكن يا سادتي.. من أين لفرعون بمخ!؟
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس: لهم يقلوب لا يفقهون بها..
ولهم أعين لا يبصرون بها..
ولهم آذان لا يسمعون بها...
أولئك كالأنعام..
بل هم أضل.. أولئك هم الغافلون!
--------
عن الرئيس الغبي المتأله قال مطر:
لهذا الإله أصعر خدي!
أهذا الذّي يأكُلُ الخُبزَ شُرْبًا/ ويَحسَبُ ظِلَّ الذُّبابةِ دُبًّا/ وَيمَشي مكبًّا كما قد مَشى بالقِماطِ الوَليدْ..؟
أهذا الّذي لم يَزَلْ ليسَ يَدْري بأيِّ الولاياتِ يُعنى أخوهُ/ وَيعيا بفَرزِ اسمهِ إذ يُنادى فِيحَسبُ أنَّ الـمُنادى أبوهُ/ ويجعَلُ أمْرَ السَّماءِ بأمرِ الرئيسِ/ فَيَرمي الشِّتاءَ بِجَمْرِ الوَعيدْ/ إذا لم يُنَزَّلْ عَليهِ الجَليدْ؟!
أهذا الَذي لا يُساوي قُلامَةَ ظُفرٍ/ تُؤدّي عَنِ الخُبزِ دَوْرَ البَديلِ/ ومِثقالَ مُرٍّ لِتخفيفِ ظِلِّ الدِّماءِ الثّقيلِ/ وَقَطرةَ حِبْرٍ تُراقُ على هَجْوهِ في القَصيدْ..؟ أهذا الغبيُّ الصَّفيقُ البَليد/ إلهٌ جَديدْ؟! أهذا الهُراءُ.. إلهٌ جَديدْ/ يَقومُ فَيُحنى لَهُ كُلُّ ظَهْرٍ وَيَمشي فَيَعْنو لَهُ كُلُّ جِيدْ!؟ يُؤنِّبُ هذا، ويَلعَنُ هذا وَيلطِمُ هذا، وَيركَبُ هذا/ وَيُزجي الصَّواعِقَ في كُلِّ أرضٍ/ وَيَحشو الَمنايا بِحَبِّ الَحصيدْ/ وَيَفعَلُ في خَلْقِهِ ما يرُيدْ!؟
لِهذا الإلهِ أُصَعِّرُ خَدّي وأُعلِن كُفري، وأُشهِرُ حِقدي/ وأجتازُهُ بالحذاءِ العَتيقِ/ وأطلُبُ عَفْوَ غُبارِ الطّريقِ إذا زادَ قُربًا لِوَجْهِ الَبعيدْ! وأرفَعُ رأسي لأَعلـى سَماءٍ ولو كانَ شَنْقًا بحَبْلِ الوَريدْ
وأَصْرُخُ مِلءَ الفَضاءِ المديدْ/ أنا عَبدُ رَبِّ غَفورٍ رَحيمٍ عَفُوٍّ كريمٍ حكيمٍ مَجيدْ! أنا لَستُ عبدًا لِـعبْدٍ مَريدْ/ أنا واحِدٌ مِن بقايا العِبادِ إذا لم يَعُدْ في جميعِ البلادِ سوى كُومَةٍ من عَبيدِ العَبيدْ! فأَنْزِلْ بلاءَكَ فَوقي وتحتي/ وَصُبَّ اللّهيبَ، ورُصَّ الحَديدْ/ أنا لن أحيدْ/ لأنّي بكُلِّ احتمالٍ سَعيْد: مَماتي زَفافٌ، وَمَحْيايَ عِيدْ!
سَأُرغِمُ أنفَكَ في كُلِّ حالٍ/ فإمّا عَزيزًا.. وإمّا شَهيدْ !
albasuni@hotmail.com

شاهد على زمن الطغاة

شاهد على زمن الطغاة:
خطب الدكتاتور الموزونة،
كتب محمود درويش: ....
سأختار أفراد شعبي/ سأختاركم، واحدًا واحدًا/ سأختاركم كي تكونوا جديرين بي/ إذن، أوقفوا الآن تصفيقكم كي تكونوا جديرين بي، وبحبي/ قفوا - أيها الناس - يأيها المُنتقون كما تُنتقى اللؤلؤة: لكلِّ فتىً امرأة/ وللزوج طفلان: في البدء يأتي الصبي/ وتأتي الصبية من بعد.. لا ثالث/ وليعم الغرامُ، على سُنَّتي/ فأحبوا النساء، ولا تضربوهنَّ إن مسَّهُنَّ الحرامُ/ سلامٌ عليكم.. سلامٌ.. سلامُ!

سأختارُ من يستحق المثول أمام مدائح فِكري/ ومن يستحق المرور أمام حدائق قصري/

سأختار شعبًا محبًّا، وصلبًا، وعذبًا/ سأختار أصلحكم للبقاء، وأنجحكم في الدعاء لطول جلوسي/ فتُبّا لما فات من دولٍ مزقتها الزوابعْ! لقد ضقت ذرعًا بأميّة الناس/ يا شعبي الحرّ، فاحرسْ هوائي من الفقراءِ، وسرب الذباب، وغيم الغبار/ ونظِّفْ دروب المدائن من كلِّ حاف، وعارٍ، وجائعْ/ فتُبّا لهذا الفساد، وتُبّا لبؤس العِباد الكسالى، وتُبا لوحل الشوارعْ!

سأختاركم وفق دستور قلبي: فمنْ كان منكم بلا علّة فهو حارسُ كلبي/ ومنْ كان منكم طبيبًا أعيّنه سائسًا لحصاني الجديدْ/ ومنْ كان منكم أديبًا أعيّنه حاملاً لاتجاه النشيد/ ومنْ كان منكم حكيمًا أعيّنه مستشارًا لصك النقود/ ومنْ كان منكم وسيمًا، أعيّنهُ حاجبًا للفضائحْ/ ومنْ كان منكم قويًّا أعيّنهُ نائبا للمدائحْ/ ومنْ كان منكم بلا ذَهبِ، أو مواهب فلينصرفْ/ ومنْ كان منكم بلا ضَجَر ولآلئ فلينصرفْ/ فلا وقت عندي للقمح والكدح.. ولأعترفْ/ أمامك يأيها الشعب يا شعبي المُنتقى بيديّ بأني أنا الحاكمُ العادلُ/ لابد من برلمان جديد، ومن أسئلة: مَنِ الشعبُ، يا شعبُ؟ هل كلُّ كائنْ/ يُسمى مواطنْ؟/ تُرى هل يليق بمَن هو مثلي قيادة لص، وأعمى، وجاهلْ؟/ وهل تقبلون لسيّدكم أن يساويَ ما بينكم، أيها النبلاء، وبين الرعاع اليتامى الأرامل؟/ وهل يتساوى هنا الفيلسوف مع المتسوّل؟ هل يذهبان إلى الاقتراع معًا كي يقود العوام سياسة هذا الوطنْ؟ وهم أغلبيتكُم، أيها الشعب، هم عددٌ لا لزوم له إن أردتُمْ نظامًا جديدًا لمنع الفِتنْ!

إذنْ، سأختار أفراد شعبي: سأختاركم واحدًا واحدًا كي تكونوا جديرين بي، وأكون جديرًا بكمْ/ سأمنحكم حق أن تخدموني/ وأن ترفعوا صوري فوق جدرانكم/ وأن تشكروني لأني رضيت بكم أمّةً لي/ سأمنحكم حق أن تتملوا ملامح وجهي في كلِّ عام جديد/ سأمنحكم كل حق تريدون: حق البكاء على موت قط شريد/ وحق الكلام عن السيرة النبوية في كلِّ عيد!

لكم أن تناموا كما تشتهون: على أي جنب تريدون.. ناموا/ لكم حق أن تحلموا برضاي وعطفي، فلا تفزعوا من أحدْ/ سأمنحكم حقكم في الهواء، وحقكم في الضياء، وحقكم في الغناء/ سأبني لكم جنّة فوق أرضي.. كُلوا ما تشاؤون من طيباتي/ ولا تسمعوا ما يقول ملوك الطوائف عني/ وإني أحذركم من عذاب الحسدْ!/ ولا تدخلوا في السياسة إلا إذا صدر الأمر عنِّي/ لأن السياسة سجني/. هنا الحُكْمُ شورى:/ أنا حاكمٌ مُنتخبْ/ وأنتم جماهير مُنتخبة/ ومن واجب الشعب أن يلمس العتبة/ وأن يتحرى الحقيقة ممن دعاه إليه، اصطفاه، حماه من الأغلبية/ والأغلبية مُتعِبة مُتْعَبَة/ ومن واجبي أن أوافق، من واجبي أن أعارض، فالأمر أمريَ والعدل عدلي، والحق مُلكُ يديّ/ فإما إقالته من رضاي/ وإما إحالته للسراي/ فحق الغضبْ/ وحق الرضا لي أنا الحاكم المُنتخبْ/ وحق الهوى والطرب/ لكم كلكم..

أنا الحاكم الحرُ والعادل/ وأنتم جماهيري الحرّة العادلة/ سننشئ منذ انتخابي دولتنا الفاضلة/ ولا سجن بعد انتخابي، ولا شعرَ عن تعب القافلة/ سألغي نظام العقوبات من دولتي؛ فمن أراد التأفف، خارج شعبي، فليتأفف/ ومن شاء أن يتمرّد، خارج شعبي، فليتمردْ/ سنأذن للغاضبين بأن يستقيلوا من الشعب، فالشعب حرٌّ/ ومن ليس منّي ومن دولتي، فهو حرّ/ سأختاركم واحدًا واحدًا مرّة كل خمس سنين، وأنتم تُزكونني مرّة كل عشرين عامًا إذا لزم الأمر، أو مرّة للأبدْ.. وإن لم تريدوا بقائي، لا سمح الله، إن شئتم أن يزول البلدْ/ أعدت إلى الشعب ما هبَّ أو دبَّ مِنْ سابق الشعب كي أملك الأكثرية، والأكثرية فوضى/ أترضى، أخي الشعب؟! أترضى بهذا المصير الحقير.. أترضى؟ معاذك!

قد اخترتُ شعبيَ، واختارني الآن شعبي/ فسيروا إلى خدمتي آمنين/ أذنت لكم أن تخروا على قدمي ساجدين/ فطوبى لكم، ثم طوبى لنا أجمعين!

الله لا يرحم البعيد

عبد السلام البسيوني | 23-10-2011 23:32

أتعجب أنا من العاطفة العمياء التي تحكم كثيرين منا، ولا تفكر مليًّا في أقدار الله تعالى، ولا في استحقاق بعض الناس ما يلحق بهم من الإهانة والنكال (بما كسبت أيديهم)!

فحين كاد مبارك يسقط تعاطف معه كثيرون، وقالوا: غلبان/ ارحموا عزيز قوم ذل/ دا صاحب الضربة المِشْعارِفْ إيه/ دا بطل أكتوبر (ازاي معرفش)/ دا أبونا.. دا راجل كبير يا عيني!

بل وتكونت (جروبات) تدافع عنه، وتعدد مآثره، وأياديه البيض على مصر وأهلها!

لكن الله تعالى الغالب أبى إلا أن يسلط عليه غباء رجاله، كما سلطهم هو على الشعب المشلول، فكانوا - كلما هدأت الأحوال، وبسبب من غرورهم الأعمى - يتصرفون تصرفًا غبيًّا، يشعل الناس غضبًا وثورة من جديد. وتكرر ذلك حتى كانت قاصمة الظهر (معركة الجمل) التي قال الشعب بعدها (ما بدهاش) وأصروا على خلعه، وخلع زبانيته من كبار الإرهابيين (الوطنيين) صناع الفتن والمؤامرات.

وكاد قومنا الطيبون - في لحظة عاطفة - ينسون أنه ورجاله جففوا ينابيع كل خير في البلد: الاقتصاد، والصناعة، والزراعة، والتجارة، والعمق السياسي، ونشروا الفساد، والبيروقراطية، وعذبوا الناس وجوعوهم، وأذل أعناقهم، حتى زاد العوانس عن تسعة ملايين، وحتى تفشت البطالة بشكل لا يطاق، وانتشرت المخدرات، والعنف، والبلطجة، والقتل في الشوارع، والمخافر، ومقار أمن الدولة، والسجون، وكسرت الشرطة إرادة المواطنين لحد غير متصور.. في حين دلل هو وحكوماته وأزلامه إسرائيل، ومكنوا من رقبة مصر كل من لا يذكر اسمه، حتى ميليس زيناوي ورؤساء دويلات القرن الأفريقي! و(هوّ ولا هنا).. عذب - بأمره أو بتواطئه أو بتغافله - وجوع، وأهان، وأذل 85 مليون رجلًا وامرأة وطفلًا!

والغريب أن هناك أصواتًا تعيد الموقف ذاته، وتبكي على جرذ ليبيا قذاف الدم، وتصفه بالوطنية، وحماية بلده اللي كان أهلها ما بيدفعوش كهربا ولا مية (!) الله يهديكم؟

ألهذه الدرجة تَعمى العاطفة فتلغي العقل!؟

أترْثون لذلك الحيوان الذي دك بلده بالطائرات، واستأجر مرتزقة قتلوا وجرحوا أكثر من مائة ألف شخص في الأشهر الفائتة، ودمر بلده تدميرًا يبكى عليه!؟

أتدمعون على ذلك الوحش المنتفخ المنفش المستعلي، الذي يتم أطفالًا، ورمّل نساءً، وأثكل أمهات، ودك مدنًا، وأشعل بالنفط النار يبكى عليه!؟

أترقُّون لذلك الرئيس الوطني الذي هدد شعبه صراحة أنه سيجعلها جهنم الحمر، قرية قرية ودارًا دارًا!؟

أتعطفون على الفرعون الذي احتقر شعبه، وأهانه، وأفقره، وسرق ماله، ومستقبله أربعين سنة مضت، وأربعين سنة قادمة!؟

أتلين قلوبكم لذلك الطاغية الإرهابي الكبير الذي أنجب طاغيته وإرهابيه الصغير سيف الإزلام، الذي كان يخاطب (شعبه) بأصبعه، كأنهم تلاميذ في الروضة، ويهددهم، ويتوعدهم كأنهم محاسيب عند أبيه؟

أتحدبون على الكائن الذي حول ليبيا كلها – البلد النفطي الضخم - عزبة يرتع فيها أبناؤه، وعائلته، ومن اصطفاهم؛ لمساعدته في التفقير والتجهيل، والإرهاب والقمع؟

أليس للمائة ألف قتيل وجريح في ميزانكم حساب؟

أليس لهذه القائمة الطويلة من الخيانة في عدلكم ثمن؟

وهل أنتم أرحم من ربكم الرحمن الرحيم الذي شرع القصاص، وأمر بالعدل!؟

خذوا هذه المعلومة العجيبة:

= لما أراد الله تعالى أن يغرق فرعون مصر عليه لعائن الله، وعاين الأحمق الغبي الموت قال – حين لا ينفع القول -: (آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين) وكأنه الغبي يخادع ربه تعالى، متجاهلًا أنه روع المصريين، وقتل جيلًا من الأطفال الرضع، وقال لشعبه: أنا ربكم الأعلى، وعبَّدهم لنفسه وعائلته، وهامانه، وكهنته، وملئه!

وأثناء غرقه رآه سيدنا جبريل (ملاك الوحي والحياة والرحمة) وهو يحاول أن يسلم وينطق بشهادة التوحيد التي عاش عمره كله يحاربها، فأخذ جبريل طميًا من قاع البحر، وطفق يحشو به فم فرعون؛ حتى لا ينطق بالشهادة، فربما أدركته رحمة الله تعالى! تصور!

في مسند أحمد، والترمذي، وصحيح الجامع، والسلسلة الصحيحة، والنوافح العطرة، وغيرها، بأسانيد صحيحة، عن ابن عباس رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم: (لما أغرق الله فرعون قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} قال صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: يا محمد: لو رأيتني وقد أخذت حالًا من حال البحر فدسيته في فيه؛ مخافة أن تناله الرحمة)!

لا يريده أن يسلم فيُرحم، لبشاعة جرائمه المتراكمة المتطاولة الممتدة الشنيعة!

سبحان الله: جبريل يفعل ذلك، وإخواننا يعتقدون أنهم أرحم من جبريل عليه السلام!

= سيدنا نوح صلى الله عليه وعلى أنبياء الله جميعًا، وسلم تسليمًا كثيرًا يدعو على قومه؛ بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فما آمن معه إلا قليل، فقال من قلبه: (رب: لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا) سيدنا نوح عليه السلام، أحد أهم خمسة رجال في تاريخ البشرية، وأرحمهم، وأبرهم، يدعو على قومه، أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر..

وبعض إخوتنا يظنون أنهم أرحم من نوح صلى الله عليه وسلم!؟

= ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه ربه رحمة للعالمين، يدعو على رعل، وذكوان، وعصية، القبائل التي خانت الكلمة، وغدرت بالمسلمين: ففي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان، فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوه على قومهم، فأمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين من الأنصار، قال أنس: كنا نسميهم القراء، يحطبون بالنهار، ويصلون بالليل، فانطلقوا بهم، حتى إذا بلغوا بئر معونة غدروا بهم، وقتلوهم، فقنت صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان، في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة، يدعو عليهم، ويؤمِّن من خلفه!

= ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه ربه رحمة للعالمين، دخل مكة المكرمة فأمّن أهلها كلهم، وعفا عنهم، رغم ما فعلوه به صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه رضي الله عنهم من تشريد وتعذيب وقتل ومصادرة وتشويه، وتأليب للعرب عليه، يدخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: يا رسول الله: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال صلى الله عليه وسلم: اقتلوه؛ وإن كان متعلقًا بأستار الكعبة!

أنحن أرحم منه صلى الله عليه وسلم؟!

أتعجب والله ممن يرثون لقذاف الدم، ولا يرثون لبحور الدم التي أهرقها، رغم أنه ظل متفرعنًا مستكبرًا لآخر لحظة، يقاتل، ويهدد، ويسـتأجر، ويرسل مدافعه وراجماته على الناس جحيمًا، ويسلط قناصته لاصطياد رؤوس أهل وطنه، بل أهل مدينته سرت! ولم تظهر منه بادرة ندم، أو إشارة اعتذار، أو علامة تراجع، كما ظهر من صدام مثلا، أو حتى المجرم بن علي الذي قال لشعبه: فهمتكم.. فإن هذا أبى حتى أن يفهم!

ودعني أُجْرِ مقارنة هنا بين قذاف الدم وبين صدام، وكلاهما كان جبارًا عنيدًا عنيفًا، لكن أحدهما استمر جبارًا عنيدًا، في حين لان الآخر وتراجع؛ ما أدى إلى أن يتعاطف معه كثيرون:

= = في آخر سنوات صدام كان قد بدأ يتراجع عن كثير من جبروته، وبعثيته، وحمقه، ويعود إلى دينه، ويتواصل مع العلماء، وأهل الدين، ما أقلق الغرب كثيرًا، وكان من أسباب التعجيل بضربه!

على عكس صاحبنا العقير قذاف الدم، الذي ظل لآخر لحظة - مثل فرعون - مستكبرًا منتفخًا، يهدد ويتوعد!

= = حين أخذوا العقير من ماسورة مجاري الجرذان، قال لهم في ترجٍّ وذلة: يا أولادي لا تقتلوني/ حرام عليكم/ حرام عليكم/ إنتو ما تعرفوا الحرام؟!

بينما رفع صدام رأسه، هازئًا بأولاد الرفضة، الطائفيين الذي كانوا يشمتون به، وكان يهينهم، ولم تطرف له عين، وجهر بلا إله إلا الله محمد رسول الله، سمعتها الدنيا كلها!

وفي المحكمة كان صدام كان جريئًا عزيزًا، لم يرج المحكمة، ولم يذل نفسه لأحد، بل كان يجبههم، ويقارعهم، ويهينهم، ويقرأ في المصحف أمام كاميرات تلفزيونات العالم!

= = وقف العالم كله ضد صدام، بينما وقف العالم كله – حتى بعض الدول العربية – مع العقير، وثبتوه، وشجعوه، وأطالوا أمد فساده، ودماره، تسعة اشهر، وأمدوه بالأسلحة جهارًا نهارًا، ولا عليكم من شغل النيتو الذي دمر البنية التحتية معه، ولا عليكم من الشجب الإعلامي لبعض الأنظمة، التي آوت رجاله وعائلته، وأخفت جرائمه.

= = إسرائيل كانت تخاف صدام، وتأخذ تهديداته بجدية، ولم تدخل العراق إلا بمعونة الروافض، وبعد إعدامه صار الصهاينة يحكمون العراق منذ اللحظة الأولى لغزوها... في حين أن العقير استأجرهم لحمايته، بشكل صريح معلن، سبق أن كتبت عنه!

= = لم يُصحِّر صدام بلده، ولم يغلق الجامعات، ولم يقص أعناق العلماء، بل كانت العراق بلدًا ينتج مئات وألوف العلماء، والأكاديميين، والشعراء، والفنانين.. أما العقير فقد تركها صحراء بلقع، ليس فيها معلم حضاري، ولا جامعة ذات شأن، ولا مدينة متحضرة، ولا قانون أو دستور، ولا شعب كريم مستور!

أيها العاطفيون الباكون على قذاف الدم.. راجعوا أنفسكم من فضلكم!

--------------

albasuni@hotmail.com

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

« ماسبيرو» ... خفايا وكواليس الجريمة

« ماسبيرو» ... خفايا وكواليس الجريمة
رغم انفعالي الشديد بها، ووفرة معلوماتي عن خباياها؛ كنت قاسيا على نفسي حين منعتها من الكتابة أو التعليق على أحداث ماسبيرو الدامية، لعل ما حملني على هذا الاختيار، حتى اللحظة، هي مشاعر داخلية، وربما أمنية، في أن تكون الأحداث، بأقل من هذه الخسة، أو من هذا الهول، لكنها للأسف الشديد كانت أخطر مما توقعت، بل وأفظع مما رآه الناس على شاشات التلفاز.

خيوط الحدث، التي تجمعت قبل وقوعه بشهور، كانت، بلا شك، تغذي سقف التوقعات، تحت وقع تحركات التحالف الليبرالي الصليبي المتطرف قبل بدء الانتخابات، لاسيما بعد أن أرسلت أمريكا دعمًا قويًّا للتيار الليبرالي الصليبي المتطرف، ممثلا في « آنا باتريسون»، سفيرة جهنم التي لا تعرف قواميسها الدبلوماسية غير الدسائس والانقلابات والحروب الأهلية، حتى إنها « قامت» باغتيال السيناتور بول ولستون، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، لمجرد « معارضته للسياسة الأمريكية في كولومبيا -كما تشير وثائق « ويكيلكس» المسربة ».

« وعندما تولت السفارة بباكستان، قبل شهرين فقط من اغتيال رئيسة الوزراء الباكستانية بي نظير بوتو التي طلبت منها خطيًّا المساعدة في إجراء تقييم للأمن وحمايتها؛ لأنها كانت تخشى على حياتها، لكن باتريسون أوصت الإدارة الأمريكية بعدم التعاون معها لإجبارها على التعاون مع برويز مشرف صاحب الانقلاب العسكري في البلاد» وانتهت حياة بنظير لأنها رفضت خطة « باتريسون».

وهي أيضا أول من أضفى الحصانة الدولية على مرتزقة « بلاك ووتر» من المحاكمة على ما يقترفونه من جرائم في الدول الأخرى.

« وكشفت وثيقة أخرى مسربة أن «آنا باترسون» عندما كانت سفيرة بلادها في كولومبيا وباكستان قامت بتجنيد بعض الأشخاص العاملين بوسائل الإعلام الأجنبية بتلك الدول في وكالة الاستخبارات الأمريكية بهدف تنفيذ انفجارات وأعمال شغب في هذه البلاد، فضلا عن عمل توترات دبلوماسية وتنفيذ عدة اغتيالات لشخصيات مهمة».

ولذلك تعرف «آنا باترسون» في الأوساط الدبلوماسية بلقب سفيرة جهنم ،بينما تكتفي الإدارة الأمريكية بوصفها بسفيرة المهام الصعبة!

ولهذا يمكننا أن نصف ما يحدث الآن بأنه حرب بين السفارة الأمريكية وحلفائها من الأقباط الأرثوذوكس والليبراليين من جانب، وبين مصر الثورة التي تسعى للانعتاق من نير التبعية والاسترقاق.

وتخطط سفيرة جهنم وحلفائها لإحتواء العملية الديمقراطية والسيطرة على الحراك الثوري بحيث يفضى الأمر في نهايته إلى إدارة مصرية أمريكية الهوى وتنتهى الثورة المصرية إلى مجرد إنتقال الكرة من مبارك إلى لاعب أخر في نفس الفريق الأمريكي .

ومنذ أشهر قليلة؛ علمت بوقوع شقاق في صفوف التيار الليبرالي، وانقسامه إلى فريقين:

«فريق متطرف»، يقوده حزب ساويرس وبعض أحزاب فلول الوطني، ممن يطلقون على أنفسهم اسم « الكتلة المصرية»، وهؤلاء يرون، في أغلبهم، أنه لا يمكن السماح بفوز الإسلاميين في الانتخابات بأغلبية مريحة، وأن بقاء العسكر في الحكم أولى وأفضل من انتخابات وحكومة مدنية يتواجد فيها الإسلاميون بشكل مؤثر.

« وفريق آخر»، يتزعمه عدد من السياسيين المخضرمين أمثال عمرو حمزاوي ([1]) يرى أن فشل الإسلاميين السياسي هو وحده القادر على تدمير شعبيتهم، وإجهاض المشروع الإسلامي. وبما أن الفارق بين تطلعات الشعب، من أول حكومة منتخبة بعد الثورة، وبين قدرة هذه الحكومة فعليًّا على إحداث طفرة يشعر بها الناس، كبير جدًّا، فلن تستطيع أية حكومة قادمة إرضاء الشعب، أو إنجاز تغيير حقيقي يشعر به الناس، ولهذا يعتبر هذا الفريق، أن فوز الإسلاميين، في هذه الانتخابات، يشكل دافعا لإسقاط المشروع الإسلامي كليًّة، وإثبات فشله أمام الشعب المصري المتعلق به، وأن الفرصة متاحة كذلك لتقوية التيار الليبرالي، المرفوض شعبيًّا، وتوسيع قاعدته الجماهيرية.

وقبل جريمة ماسبيرو بأسابيع؛ هاتفني أحد الأصدقاء وأخبرني أنه شاهد، بحكم عمله وموقعه، اجتماعا سريًّا، استمر حتى بزوغ الفجر، جمع الملياردير المتطرف، نجيب ساويرس مع يؤانس، سكرتير شنودة، في أحد أحياء القاهرة، وبصورة أريد لها أن تكون سرية،

بعدها علمت أيضًا، أن اجتماعات عدة عقدت، بين سياسيين ورجال دين محسوبين على الكنيسة، وبين عناصر نافذة من تكتل « الكتلة المصرية»، التي ضمت عدة أحزاب يسيطر عليها نجيب ساويرس وفلول الحزب الوطني، والتي تضم، أيضًا، عناصر متطرفة من التيار الليبرالي.

هذه الاجتماعات أسفرت عن عدة نتائج، كان من أهمها،:

· مناشدة أسامة الغزالي حرب([2])، ربيب الحزب الوطني والعراب السياسي لجمال مبارك ورئيس حزب الجبهة الليبرالي السابق، المجلس العسكري تأجيل الانتخابات لمدة عامين، على الأقل، مقابل بقاء المجلس في السلطة المطلقة، طوال هذين العامين؛

· ومناشدة حزب ساويرس "المصريين الأحرار" المتكررة للمجلس العسكري بفرض وثيقة مبادئ فوق دستورية، إجباريًّا، دون الرجوع للشعب، أو الأحزاب، أو الائتلافات السياسية.

لكن أخطر ما نوقش، في هذه الاجتماعات، كان الخطة البديلة، في حال إجراء الانتخابات، وفوز الإسلاميين بأغلبية مريحة، تضمن لهم حرية التحرك السياسي..

فوز الإسلاميين يعني كابوسًا مفزعًا لكل هؤلاء، فهو سيمثل نهاية العصر الذهبي للكنيسة، الذي تضخم فيه دورها، ومصالحها، على حساب المجتمع، بكل أطيافه، بمن فيهم النصارى أنفسهم، الذين تعانتهم الكنيسة وتعاندهم، في أبسط حقوقهم الإنسانية وأهمها .. أن يكون لأحدهم زوجا وأطفالا وأسرة!!

فوز الإسلاميين بأغلبية مريحة، يعني، أيضًا، إعطاء الفرصة لهم، لأول مرة، منذ أكثر من مائتي عام، لإظهار قدرتهم، وتأكيد وطنيتهم، وجدارتهم، في إدارة شئون البلاد، بما يحقق لها التقدم، ويحفظ لها كرامتها، ويعز لها دينها. وهي مكاسب تكفي لمسح الفلسفة الليبرالية من قاموس الحياة السياسية المصرية؛ لاسيما وأنها قامت بالأساس على فرضية ظالمة حاولت أن تثبت بموجبها، عبثا، أطروحة زعمت طويلا: « إن التقدم والدين ضدان لا يجتمعان ولا يتفقان».

يبدو أن الخطة البديلة لمواجهة فوز الإسلاميين؛ كانت خطة كتابية؛ نسبها كتابهم المقدس لأحد أبطاله المسمى، « شمشون الجبار»، الذي يظن البعض أنه شخصية وهمية، ولكنه في الحقيقة أحد أبطال الإيمان في الكنيسة,

وأسطورة « شمشون» في « الكتاب المقدس» تقول: إن شمشون اليهودي حين تغلب عليه الفلسطينيون الأشرار وحرموه من مصدر قوته وفقد كل شيء قرر الانتقام من الجميع، وانتظر حتى اجتمع الفلسطينيون في أحد أعيادهم، فقام بهدم المعبد عليه وعلى الفلسطينيين، مؤسسًا المثل الشهير: « عليَّ وعلى أعدائي».

الانتخابات ستجري على ثلاث مراحل، وهو ما يتيح لضباع الكنيسة، وذئاب الليبرالية، أن تتلمس، في ضوء نتائج المرحلة الأولى، ما ستكون عليه النتيجة النهائية التي ستسفر عنها نتائج الانتخابات، وهو نفس الأسلوب الذي اتبعه مبارك حين رضخ لضغوط إصلاحية خارجية، فقرر إجراء انتخابات نصف نزيهة، تضمن عدم اعتراض دولي على تصعيد جمال للرئاسة، وقتها لعب مبارك نفس اللعبة.. انتخابات على مراحل تكون نتيجة المرحلة الأولى فيها مرعبة للغرب، بالقدر الذي يجبرهم على التوسل لمبارك، أن يتدخل بطريقته المعهودة لإقصاء الإسلاميين عنها وقد كان.

وليس لدى التحالف الليبرالي الصليبي المتطرف سوى أن يطلق ثعالبه ليحرق البلد، ويجبر الجيش على إلغاء الانتخابات، والبقاء في السلطة لمدة طويلة، تسمح له ولأمريكا بإعادة ترتيب المشهد السياسي المصري، بعد الإعداد لمكيدة تلقي بالإسلاميين، مجددا، في الزنازين وباحات المعتقلات، أو على الأقل تبعدهم عن الحياة السياسية تمامًا.

التحالف الليبرالي الصليبي، خطط، ونفذ بروفته المصغرة، واختبرها في « ماسبيرو»، أملا في تحصين نقاط ضعفه، والوقوف على عناصر القوة لديه، ومن ثم تسخين المشهد .. فهل وصلت الرسالة إلى المجلس العسكري؟

هل أدرك المجلس العسكري جدية الرسالة التي حرص هذا التحالف الإرهابي على إرسالها له، ممهورة بدماء أربعة وستين جنديًّا مصريًّا، ذبحهم الأقباط على ضفاف النيل، وأمام ماسبيرو ([3])؟

لا أعلم .. لكن ما أعلمه، جيدًا الآن، أن المجتمع بأسره، وليس المجلس العسكري فقط أصابه الذهول من قوة هذا التحالف، الذي استطاع تجييش كل الفضائيات الإعلامية ضد الجيش، وجعل من بلطجية « ماسبيروا» شهداءً وثوارًا وضحايا!!!

الهواجس، وصلت بي، أن توقعت تحرك العناصر الشريرة، في وزارة الداخلية وأيتام جهاز أمن الدولة المنحل، لدعم مؤامرة التحالف الليبرالي الصليبي، ولم يكن مفاجئًا أن يغير المجلس العسكري لهجته بعد المؤتمر الصحفي، الذي عرض فيه الحقائق كاملة، بل وحاول امتصاص الغضبة الإعلامية عليه، وبدلاً من أن يقاد سفاحو الكنيسة، وخبثاء الليبراليين وبلطجية 6 أبريل، إلى المحاكمة، هرول المسئولون كالعادة إلى مقر شنودة يقدمون الاعتذار والتعازي طالبين الصفح من « قداسته».

أما الإسلاميون، وهم في الحقيقة جوهر الصراع ومحوره الآن، فقد تميز موقفهم، للأسف، بقلة الوعي، بل وبالسذاجة أحيانًا .. سذاجة دفعت بعضهم للخروج لحماية ظهور المعتدين الأقباط، وتأمين الكنائس، التي انطلق منها السفاحون ليذبحوا جنود الجيش أمام « ماسبيرو»..

أما البعض الآخر فقد بالغ في تصور المؤامرة، فزعم أن ما حدث هو مسرحية بين الجيش والأقباط والليبراليين لتأجيل الانتخابات!!

وبينما يقف المجلس العسكري، وأنا لست متعاطفًا معه، الآن وحده أمام الضغوط الخارجية، والمؤامرات الداخلية، لإقصاء الإسلاميين عن الحياة السياسية، وتسليم زمامها للتيار الليبرالي والصليبي المدعوم من الغرب و « إسرائيل».

هكذا يبقى الإسلاميون، للأسف، وكالعادة، دون مستوى الأحداث الخطيرة بأزمان، رغم أنهم محور هذا الصراع. فإلى متى سيظل الإسلاميون خارج دائرة الفعل التاريخي؟ وإلى متى سيظلون مستمتعين بمشهد المتفرجين على خاتمة قد تلهب السياط فيها جلودهم من جديد؟

راجع للأهمية: « الإسلاميون في ظلمة الاغتراب مرة أخرى»

أرجو المعذرة على إعادة بعض الصياغات



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) حمزاوي هو كبير الباحثين في معهد كارنيجي لنشر السلام في الشرق الأوسط، وهو معهد صهيوني يهدف لإنهاء عداء الدولة الإسلامية لإسرائيل، ويرى حمزاوي أنه الأجدر برئاسة مصر، لكنه يحتاج بعض الوقت لحشد التأييد الداخلي اللازم لهذا، بينما يبدو مطمئنا للتأييد الخارجي الذي خطى فيه خطوة هامة بإعلان ارتباطه بالممثلة بسمة ذات الأصول اليهودية.

([2]) حزب الجبهة أنشئ بالأساس كواجهة سياسية للتحالف الليبرالي الصليبي في مصر، والذي أسسه السياسي الأمريكي الصهيوني دانيال بايبس ليكون ذارعًا للصهيونية في مصر، واعترف نجيب ساويرس بأنه كان الداعم المادي لهذا الحزب، بينما كان مايكل منير يختار بنفسه أعضاء المكتب السياسي للحزب، وقد حدثني منذ زمن أحد الليبراليين المشاهير بعد أن تاب الله عليه ليخبرني أن مايكل منير عرض عليه التبرع بمائة ألف جنيه للحزب مقابل مقعد في المكتب السياسي للحزب!!

([3]) أكدت هذا الرقم الاعلامية منى الشاذلي على صفحتها الشخصية بموقع تويتر فكتبت تقول "أخبار متعددة المصادر من شخصيات ذات ثقل أن ضحايا الجيش في أحداث ماسبيرو بلغت 64 شهيد " ثم تناقلته وسائل الاعلام بكثرة منسوبا إلى عدة شخصيات عامة وحتى اللحظة لم يصدر تعليق من الجيش.

وماذا بعد الهجوم على السلفيين ؟

وماذا بعد الهجوم على السلفيين ؟
- أ. هيثم عبد الحميد
كثيرا ما كانت تتبادر إلى ذهنى تساؤلات عن الحملة الإعلامية الشرسة على السلفيين: هل المقصود حقاً المتشددون أم المنهج السلفى بشكل عام؟ هل التركيز على المغالين يفيد المجتمع؟ وإن صدقت النية، أليس التركيز على المعتدلين أفضل؟ هل هذا الموقف له علاقة بهوية مصر ومطلب الشريعة؟ وهل حاز الإخوان رضا الفضائيات؟

فى كم صحيفة وبرنامج "توك شو" قرأنا مقالاً أو سمعنا حواراً حول فتوى الشيخ محمد حسان بأنه لا يجوز هدم دور العبادة مهما كانت الأسباب، وأن دم المسيحى مثل دم المسلم حرام، وأنه لا يجوز شرعا هدم كنيسة؟ وفى المقابل كم شاهدنا فى مكلمات "التوك شو" حوارات عن شيخ متشدد يسير فى اتجاه خاطئ عن فهم خاطئ؟ وهل أبرزت الفضائيات مطالبة الشيخ عبد المقصود الناخبين بالتدقيق فى اختيار الناخبين، وأنه ليس لمجرد أن المرشح ملتح يتم انتخابه؟ أم أنها تبحث فقط عن كل ما يسيىء للمشايخ؟ أما إذا حاولنا سوق أمثلة عن سلسلة الأخبار المغلوطة والكاذبة عن السلفيين فلن يكفينا عشرات الصفحات.

والحقيقة أن هذا الموقف ليس وليد اللحظة، فهذه التساؤلات هى نفسها التى نطرحها على من اعتبروا أنفسهم "نخبتنا ومثقفينا" منذ عشرات السنين، فكم رأينا فى أفلامنا شيخا غاضبا مكفهر الوجه يصرخ فى وجه أحدهم قائلا: "يا عدو الله"، وثانياً يأكل بنهم تشمئز منه الأبدان، وآخر فاسد يجلس فى المسجد يقيم الصلاة ويعبد الله ويأمر بالإحسان، وكم أبرزت المسلسلات الفتاة المحجبة "معقدة نفسيا" ارتدت الحجاب فى ظروف غير سوية.. وكم رأينا برنامجا من مكلمات "التوك شو" تحيط فيه مجموعة ممن يصفون أنفسهم بـ"النخبة والمثقفين" بشيخ لا حول له ولا قوة، وكلهم مجتمعون عليه "وفين يوجعك".

مخطئ من يظن أن هذا الخطاب المقصود والموجه ـ فى رأيى ـ قاصر على السلفيين، ولكنه يشمل كل من يعتقد فى ضرورة تطبيق الشريعة أو من يرى أهمية الحفاظ على هوية مصر الإسلامية.. فالسلفيون متشددون لا يفهمون العصر، والإخوان مستغلون يخدعون الناس، وكم رأينا فى الصحف فى الفترة الأخيرة جملة "الفلول والإخوان" و"مختطفى الثورة الإسلاميين"، وكم رأينا ضيفا من الضيوف الدائمين على "التوك شو" وهو "بيشخط فينا" محذرا من خطورة الإسلاميين، وهذه المذيعة وهى "بتزعق" فى الشيخ، والآخر الذى يخاف على مصر مما يسميه "خلط الدين بالسياسة".

ولأننا فى بلد يدين معظمه بالإسلام، يصعب أن تُنتقد أحكام الشريعة انتقادا مباشرا (بالمناسبة بينتقدوها دلوقتى)، لذا يلجأ بعضهم لعبارات "مصطنعة ومغلفة" غير واضحة المعالم.

فبين مفردات خطاب من قبيل "تطبيقك أنت وليس الشريعة"، و"لا تتحدث باسم الإسلام"، "ويزعجنى صوت المؤذن وليس الأذان"، ومصطلحات أخرى من قبيل "التدين الشكلى"، و"التدين اللا عقلانى"، وبين تصنيف الإسلام وتقسيمه إلى "إسلام مصرى"، وإسلام هندى"، و"إسلام سعودى"ـ يجد الداعية أو الذى يعبر عن انتمائه للتيار الإسلامى، نفسه محاطا بعشرات الاتهامات قبل أن يتفوه بأى كلمة أو يعبر عن أى رأى، وكأن كل ملتح مستغل، وكل أذان مزعج، وكل مطالب بالشريعة غبى لا يفهم شيئاً، وكل المنتمين للتيار الإسلامى "يخدعون البسطاء"، وكأن ضيوف الفضائيات نفذوا إلى قلوب الناس ليحكموا على إيمانهم، وكأن إسلام المصريين الوسطى لا يكون إلا بارتداء العمامة الخضراء والتمايل فى الموالد، كما يرى الكثير من مثقفينا.

لم يدر بخلد أحدهم أن الناس لا تعرف غير القريب منها ومن مشاكلها، ولا تصدق ضيفا "بيشخط فيهم" فى برنامج، ولا تعترف بالنضال عبر الاستديوهات، وأقول ـ بكل بساطة وبدون فلسفة ـ إن المواطن يشاهد فى "التوك شو" انتقادا عنيفا للشيخ "الفلانى" مثلاً، فيشاهد برنامجه فلا يجد إلا الدعوة للخلق الحسن وصلة الرحم والرزق الحلال، يجد السخرية فى الأفلام من الجلباب واللحية فينزل الشارع ليجدهم يحاولون الإصلاح بين الناس ويخالقون الناس بخلق حسن، يجد المثقف الفلانى يحذرهم من تشدد السلفيين، فيجدهم يحمون الكنائس، ويجمعون الصدقات ليوجهوها إلى الفقراء، نعم هناك من يسيىء للسلفيين وللتيار الإسلامى بتعنته أو بجهله، ولكن هم قلة يضخم منهم الإعلام، ويبقى المنهج بريئا من هؤلاء المسيئين، وتبقى كلمة أخيرة، إن الشعب يكوّن رؤيته من الواقع، وليس من الاستديوهات والفضائيات.

الاثنين، 24 أكتوبر 2011

فتح المسلمين لمصر وترحيب المصريين بهم

فتح المسلمين لمصر وترحيب المصريين بهم

د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com


من بين ما تناوله د. فيليب حِتِّى فى كتابه عن "تاريخ العرب" موضوع الجزية وأثرها فى دخول أهل البلاد المفتوحة فى الإسلام كبغية الهرب من دفعها. وهذا كلام متهافت. ذلك أن أهل الشام ومصر مثلا كانوا يدفعون من الجزية للدولة التى كانت تحكمهم أكبر كثيرا مما يدفعونه للمسلمين، ومع ذلك لم يفكروا فى التحول إلى مذهب الدولة التى تحتل بلادهم رغم أنها كانت دولة نصرانية مثلهم، إلا أن مذهبها يخالف مذهبهم. لقد كانوا يتحملون دفع الأموال الطائلة ويتحملون معها الاضطهاد القاسى الذى تنزله تلك الدولة بهم، ولا يفكرون فى ترك مذهبهم إلى مذهب آخر فى نفس دينهم. فكيف يقال الآن إن الجزية الإسلامية كانت السبب فى أن أهل البلاد المفتوحة تحولوا إلى الإسلام، وهى أقل كثيرا من جزية الرومان، فضلا عن أن المسلمين لم يؤثَر عنهم أنهم اضطهدوا أحدا لدينه؟
ولكى نوضح الفرق بين الجزية والضرائب التى كان القبطى مثلا يدفعها للدولة البيزنطية نقول إن تلك الضرائب الأخيرة وصلت إلى خمسة وعشرين نوعا فرضها البيزنطيون لتغطية حروبهم الدائمة مع الدولة الفارسية. وكانت كل الأقاليم الواقعة تحت الحكم البيزنطي في حالة من الضياع والفقر ترزح تحت ترسانة من الضرائب. وفى المقابل فإن الجزية فى الإسلام مجرد مبلغ تافه فى العام لا يعجز أحد عادة عن تدبيره. وقد حسب د. نبيل لوقا بباوى نسبة الضريبة التى كان يدفعها المصريون فى عهد البيزنطيين إلى الجزية الإسلامية فوجدها 10 إلى 1[1]. ليس ذلك فقط، بل من المعروف أن الجزية يُعْفَى منها الطفل والمرأة والشيخ والراهب والمريض والرقيق، فى الوقت الذى لا يُعْفَى نظراؤهم المسلمون من الزكاة، التى هى أكبر من الجزية، زيادة على أنها ليست نوعا واحدا بل أنواعا مختلفة ما بين صدقة واجبة وتطوعية وصدقة فطر، وصدقة لكفّارة اليمين، وأخرى لكفارة الظِّهَار، وثالثة لكفارة الفِطْر فى رمضان. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ الجزية تُؤْخَذ ممن تجب عليه لقاء إعفائه من دخول الجيش حتى لا يُجْبَر على محاربة أبناء دينه، زيادة على حماية الدولة له، على حين لا تعفى الزكاة المسلم من الخدمة العسكرية.
على أن كلام حِتِّى ينقض بعضه بعضا، إذ أكد أن أغلبية أهالى البلاد البلاد المفتوحة لم يسارعوا إلى اعتناق الإسلام، بل ظلوا على أديانهم لقرن وقرنين. ترى لم ظلوا طوال كل هاتيك تلك المدة يدفعون الجزية إذا كانت بهذه الفداحة التى يريد تصويرها بها؟ لو كان الأمر كما يزعم لسارعوا منذ اللحظة الأولى إلى تغيير دينهم والدخول فى الدين الجديد. أليس هذا ما يقتضيه المنطق؟ ثم ماذا يقول حِتِّى فى إسلام أهالى الدول التى لم تكن تقع تحت حكم المسلمين، ومن ثم لم تكن حكاية الجزية واردة بتاتا فى حالتها، كإندونيسيا مثلا؟ وماذا يقول حِتِّى فى دخول الغربيين الآن بأعداد كبيرة نسبيا فى الإسلام رغم أنه لم تعد هناك جزية أصلا، بل رغم أنهم يعيشون سادة فى بلادهم، بينما المسلمون مضطهدون بوجه عام فى تلك البلاد، علاوة على أن العالم الإسلامى متخلف ضعيف تستغله الدول الغربية أبشع استغلال وتفرض عليه فى علاقاتها ومعاهداتها معه الشروط المهينة المذلة، وهو مما لا يمثل معه وضعُ ذلك العالم أىَّ نوع من أنواع الضغط على الغربيين يدفعهم إلى اعتناق الإسلام، بل بالعكس يمثل عامل تنفير غالبا منهم ومما يتصل بهم، وعلى رأس ذلك دينهم المظلوم معهم. وأخيرا وليس آخرا فالجزية إنما تُنْفَق فى المصالح العامة. أى أن فائدتها تعود على دافعيها بوصفهم من رعايا الدولة، على حين تذهب الصدقات فى مصارفها المحددة التى لا يستفيد منها مؤديها أبدا. ومن هذا كله يتبين أن ما يقوله حِتِّى لا يصمد على محك النظر والتمحيص. وللأسف فإن هذه الدعوى تتردد كثيرا فى كتابات طائفة من المستشرقين والمبشرين مع معرفتهم بكل هذه الملابسات التى أوردناها آنفا.
على أن حِتِّى نَفْسَه يقول فى موضع آخر من كتابه، عند حديثه عن طبقات المجتمع فى الدولة الإسلامية، إن الطبقة الثالثة كانت تتألف من أبناء الديانات الأخرى من نصارى ويهود وصابئة، أى من أهل الذمة، وإنه مما لا يقبل الشك أن اعتراف المسلمين بكيان هؤلاء الناس بعد أن اشترط أن يلقوا السلاح ويؤدوا الجزية لقاء تمتعهم بالحماية الإسلامية كان أعظم ما أتى به الدين الجديد من تجديد فى الناحية السياسية، وإن حاول حِتِّى فى ذات الوقت أن يرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى ما يقول إن الرسول كان يكنه للكتاب المقدس من احترام، مع أن القرآن الكريم قد اتهم أهل الكتاب بالعبث بكتابهم وإفساد دينهم، فأى احترام إذن يتحدث عنه حِتِّى؟ إن كان المقصود التوراة والإنجيل الأصليين فأين التوراة والإنجيل الأصليان؟ وإن كان المقصود التوراة والإنجيل اللذين فى أيدى الناس الآن فرَأْىُ الإسلام فيهما وفى أصحابهما معروف. إن الاحترام معناه، فى أقل تقدير، الموافقة على ما يقول الطرف الآخر ومباركته، فكيف يكون هذا فى الوقت الذى يختلف فيه الدينان اختلافا شديدا حول الصَّلْب والتثليث من جهة، ونبوة محمد من جهة أخرى؟ ذلك أن الصَّلْب والتثليث مرفوضان فى الإسلام، مثلما يرفض النصارى نبوة محمد عليه السلام. ولا ينبغى أن يكون هذا بابا إلى العداوة والكراهية من قِبَل أى من الطرفين تجاه الطرف الآخر، فالاختلاف بين الأديان فى واقع الحياة أمر طبيعى، وكلٌّ وما يعتقد، وليس من حق أحد أن يُكْرِه أحدا على الإيمان بما يعتنقه هو. والإسلام يعطى أهل الكتاب وغيرهم الحق الكامل فى الاعتقاد بما يحبون أن يدينوا به مهما كان اختلافه مع كتاب الله وحديث رسول الله، ولا يصح أن يضيّق عليهم المسلمون فى شىء أبدا. وقد أقر حِتِّى إقرارا بالحرية التامة التى كان أهل الذمة يتمتعون بها فى تأدية شعائر دينهم وفى الاحتكام إلى شريعتهم ورؤساء طوائفهم فى ظل الدولة الإسلامية[2].
ولْنُطَالِعْ معا مادة "جِزْية" فى "الموسوعة العربية العالمية"، التى تقول: "الجِزْيةُ مبالغ مالية تؤخذ من أهل الذّمة لبيت مال المسلمين، وهي الخراج المجعول عليهم. والجزية على وزن "فِعْلة"، من "جَزَى يَجْزِي" إذا كافأ عما أُسْدِيَ إليه. فكأنها أُعطِيت جزاء ما مُنِحوا من الأمن بحفظ أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وعدم إيذائهم ما أَوْفَوْا بعهدهم ولم ينكثوه. تؤخَذ الجزية بموجب عقد يُبْرَم لتأمين من أجاب المسلمين إلى دفعها من الكفار وتَعَهَّد لهم بالتزام أحكام الشريعة الإسلامية في الحدود... أما الذين تؤخذ منهم الجزية فهم أهل القتال. فأمّا الزَّمِن[3] والأعمى والمفلوج[4] والشيخ الفاني والنساء والصبيان، والراهب الذي لا يخالط النساء فلا تؤخذ منهم. مقدارها الواجب دفعه أربعة دنانير من الذهب، أو40 درهمًا من الفضة، ولإمام المسلمين أن يجتهد في ذلك. أما زمن إخراجها فإنها تجب بحلول الحول على عقد الذّمة المبرم. وتسقط الجزية عن الذمِّي إن أسلم أو مات. والجزية تؤول لبيت مال المسلمين، وتُصْرَف في مصالح الدولة العامة حسب تقدير الإمام لذلك".
على أن هناك من يقدرها بأقل من أربعة دنانير: ففى كل من كتاب "تاريخ ابن البطريق" وكتاب "فتح العرب لمصر" لألفرد بتلر أن الجزية على من يدفعها من المصريين كانت دينارين[5]. وفى "فقه السنة" للسيد سابق أن النبى فرض على أهل اليمن دينارا واحدا، لكن عمر زادها على أهل الشام إلى أربعة لأنهم أقدر من اليمانيين. والعبرة، كما نقل عن مالك، ألا يكلَّف أحد فوق طاقته[6]. ونقرأ فى مادة "Djizyah" بالطبعة الجديدة من "The Encyclopaedia of Islam" أن الجزية لا تفرض إلا على الذكر الحر البالغ القادر القوى، فلا تجب على الصغار ولا الشيوخ ولا النساء ولا العجزة ولا الرقيق ولا الشحاذين ولا المرضى ولا المجانين. بل لا تجب على الغرباء إلا إذا أقاموا فى البلاد إقامة دائمة. كما يُعْفَى أهل المناطق الحدودية منها لدى اشتراكهم فى حرب الأعداء حتى لو لم يكونوا مسلمين:
"A certain number of rules formulated during the 'Abbasid period appear to be generally valid from that time onwards. Djizya is only levied on those who are/ male, adult, free, capable and able-bodied, so that children, old men, women, invalids, slaves, beggars, the sick and the mentally deranged are excluded. Foreigners are exempt from it on condition that they do not settle permanently in the country. Inhabitants of frontier districts who at certain times could be enrolled in military expeditions even if not Muslim (Mardaites, Armenians, etc.), were released from djizya for the year in question".
وقد سبق أن قرأنا ما قاله فيليب حِتِّى من أن الشاميين والمصريين، لكونهم أقرباء فى الدم للعرب[7]، قد رحبوا بالفاتحين الجدد. وهذه قضية على درجة شديدة من الأهمية، إذ ينتشر الآن فى بلادنا المحروسة بين قطاع من شركاء الوطن القول بأن المصريين لم يرحبوا بالفتح الإسلامى عند مجىء عمرو بن العاص إلى بلادهم. ومن هؤلاء على سبيل المثال الأب بيجول باسيلى، الذى ألف كتيبا بعنوان "هل رحب الأقــباط بالفتح العربى؟" زعم فيه أن الأقباط لم يرحبوا قط بالمسلمين حين فتحوا بلادهم. والكتاب متاح على المشباك لمن يريده. والحق أن الأقباط قد رحبوا بابن العاص رضى الله عنه ترحيبا كثيرا لأنه أنقذهم من رزايا ثقيلة فادحة، إلا أن اختلاف الليل والنهار يُنْسِى. وإلى القارئ شهادات المؤرخين غير المسلمين:
فمثلا لدن تناول سعيد بن البطريق فى "تاريخه" لوقائع فتح العرب لمصر نجده يذكر وقوف المصريين إلى جانب الفاتحين ضد الرومان موردا تأكيد المقوقس لعمرو بن العاص أن المصريين مقيمون على الصلح الذى تم بينهم وبينه وأنهم سوف يصلحون للعرب الجسور والطرق. ثم يعقب على هذا بأن المصريين صاورا أعوانا للمسلمين ووقفوا معهم فى قتال الروم[8]. وبالمثل يتحدث ساويرس بن المقفع فى كتابه: "تاريخ البطاركة" عن تلك الفترة[9] فيصف هرقل بـ"الكافر"، معددا بعض الاضطهادات البشعة التى أنزلها الرومان بالمصريين من مثل قلع الأسنان والحرق بالمشاعل والتغريق فى نهر النيل فى زكائب مقفولة مثقّلة، ومعللا سبب انهزامهم أمام المسلمين بخيانتهم وظلمهم وجبروتهم. وكان قد ألمح إلى الدين الجديد الذى جاء به نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه، فى الوقت الذى أَصْلَى فيه الرومانَ نارا شاوية جراء ما لحق المصريين على أيديهم من التضييق والتعذيب. ثم يتطرق إلى دخول عمرو بن العاص مصر وإعادته الراهب بنيامين، الذى كان مختفيا من وجه الرومان فى البرية هربا من عذابهم الذى لا يحتمل، وبَذْله الأمان له وللرهبان وللأمة جميعها واستقباله وإكرامه إياه، وكيف كان هذا الحدث عيدا لجميع المصريين، إذ بدأ عهد مختلف على المصريين مارسوا فيه حريتهم الدينية دون أن يتعرض لهم أحد بأذى أو اضطهاد بسبب العقيدة أو المذهب[10]. وذلك كله بفضل عمرو بعد فضل الله سبحانه وتعالى.
وتحت عنوان "نياحة البابا بنيامين الأول الـ38 (8 طوبة)" يقول كتاب السنكسار الخاص بالكنيسة الأرثوذكسية: "في مثل هذا اليوم من سنة 656م تَنَيَّح الأب المغبوط القديس الأنبا بنيامين بابا الإسكندرية الثامن والثلاثون. وهذا الأب كان من البحيرة من بلدة برشوط، وكان أبواه غنيين. وقد ترهَّب عند شيخ قديس يسمى: ثاؤنا بِدَيْر القديس قنوبوس بجوار الإسكندرية. وكان ينمو في الفضيلة، وحفظ كتب الكنيسة حتى بلغ درجة الكمال المسيحي. وذات ليلة سمع في رؤيا الليل من يقول له: افرح يا بنيامين، فإنك سترعى قطيع المسيح. ولما أخبر أباه بالرؤيا قال له إن الشيطان يريد ان يعرقلك، فإياك والكبرياء. فازداد في الفضيلة، ثم أخذه معه أبوه الروحاني إلى البابا أندرونيكوس وأعلمه بالرؤيا، فرسَّمه الأب البطريرك قَسًّا وسلمه أمور الكنيسة، فأحسن التدبير. ولما اختير للبطريركية حلت عليه شدائد كثيرة. وكان ملاك الرب قد كشف له عما سيلحق الكنيسة من الشدائد، وأمره بالهرب هو وأساقفته. فأقام الأنبا بنيامين قداسا وناول الشعب من الأسرار الإلهية، وأوصاهم بالثبات علي عقيدة آبائهم وأعلمهم بما سيكون. ثم كتب منشورا إلى سائر الأساقفة ورؤساء الأديرة بأن يختفوا حتى تزول هذه المحنة. أما هو فمضى إلى برية القديس مقاريوس ثم إلى الصعيد. وحدث بعد خروج الأب البطريرك من الكنيسة أن وصل إليها المقوقس الخلقدوني متقلدا زمام الولاية والبطريركية علي الديار المصرية من قِبَل هِرَقْل الملك فوضع يده علي الكنائس، واضطهد المؤمنين وقبض على مينا أخ القديس بنيامين وعذبه كثيرا وأحرق جنبيه ثم أماته غرقا. وبعد قليل وصل عمرو بن العاص إلى أرض مصر وغزا البلاد وأقام بها ثلاث سنين. وفي سنة 360 للشهداء ذهب إلى الإسكندرية واستولى على حصنها. وحدث شغب، واضطرب الأمن، وانتهز الفرصة كثير من الأشرار فأحرقوا الكنائس، ومن بينها كنيسة القديس مرقس القائمة على شاطئ البحر، وكذلك الكنائس والأديرة التي حولها ونهبوا كل ما فيها... أما عمرو بن العاص فإذ علم باختفاء البابا بنيامين أرسل كتابا إلى سائر البلاد المصرية يقول فيه: الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلام، فليحضر آمنا مطمئنا ليدبر شعبه وكنائسه. فحضر الأنبا بنيامين بعد أن قضي ثلاثة عشرة (!) سنة هاربا، وأكرمه عمرو بن العاص إكراما زائدا، وأمر أن يتسلم كنائسه وأملاكها".
وهذا إدوارد جيبون المؤرخ البريطانى المعروف يقول عن ترحيب المصريين: شعبًا وقادةً ورجالَ دين بعمرو بن العاص محرّرهم من الذل والاستعباد والاضطهاد والاستغلال بكل أنواعه، وانقلابهم على الرومان مضطهديهم ومستغليهم ومعذبيهم ومحتقريهم، وبغضهم لهم رغم اتفاقهم معهم فى الدين، ورضاهم بأن يدفع القادرون منهم للفاتحين الجدد دينارين فى العام يُعْفَى منهما الرهبان والنساء والصغار والشيوخ، بالإضافة إلى تضييفهم للمسلمين ثلاثة أيام حين يمرون بهم، وسعادتهم برجوع الراهب بنيامين من مخبئه فى الصحراء:
"The Arabs, after a glorious and profitable enterprise, must have retreated to the desert, had they not found a powerful alliance in the heart of the country. The rapid conquest of Alexander was assisted by the superstition and revolt of the natives: they abhorred their Persian oppressors, the disciples of the Magi, who had burnt the temples of Egypt, and feasted with sacrilegious appetite on the flesh of the god Apis. After a period of ten centuries, the same revolution was renewed by a similar cause; and in the support of an incomprehensible creed, the zeal of the Coptic Christians was equally ardent. I have already explained the origin and progress of the Monophysite controversy, and the persecution of the emperors, which converted a sect into a nation, and alienated Egypt from their religion and government. The Saracens were received as the deliverers of the Jacobite church; and a secret and effectual treaty was opened during the siege of Memphis between a victorious army and a people of slaves. A rich and noble Egyptian, of the name of Mokawkas, had dissembled his faith to obtain the administration of his province: in the disorders of the Persian war he aspired to independence: the embassy of Mahomet ranked him among princes; but he declined, with rich gifts and ambiguous compliments, the proposal of a new religion. The abuse of his trust exposed him to the resentment of Heraclius: his submission was delayed by arrogance and fear; and his conscience was prompted by interest to throw himself on the favor of the nation and the support of the Saracens. In his first conference with Amrou, he heard without indignation the usual option of the Koran, the tribute, or the sword. "The Greeks," replied Mokawkas, "are determined to abide the determination of the sword; but with the Greeks I desire no communion, either in this world or in the next, and I abjure forever the Byzantine tyrant, his synod of Chalcedon, and his Melchite slaves. For myself and my brethren, we are resolved to live and die in the profession of the gospel and unity of Christ. It is impossible for us to embrace the revelations of your prophet; but we are desirous of peace, and cheerfully submit to pay tribute and obedience to his temporal successors." The tribute was ascertained at two pieces of gold for the head of every Christian; but old men, monks, women, and children, of both sexes, under sixteen years of age, were exempted from this personal assessment: the Copts above and below Memphis swore allegiance to the caliph, and promised a hospitable entertainment of three days to every Mussulman who should travel through their country. By this charter of security, the ecclesiastical and civil tyranny of the Melchites was destroyed: the anathemas of St. Cyril were thundered from every pulpit; and the sacred edifices, with the patrimony of the church, were restored to the national communion of the Jacobites, who enjoyed without moderation the moment of triumph and revenge. At the pressing summons of Amrou, their patriarch Benjamin emerged from his desert; and after the first interview, the courteous Arab affected to declare that he had never conversed with a Christian priest of more innocent manners and a more venerable aspect. In the march from Memphis to Alexandria, the lieutenant of Omar intrusted his safety to the zeal and gratitude of the Egyptians: the roads and bridges were diligently repaired; and in every step of his progress, he could depend on a constant supply of provisions and intelligence. The Greeks of Egypt, whose numbers could scarcely equal a tenth of the natives, were overwhelmed by the universal defection: they had ever been hated, they were no longer feared: the magistrate fled from his tribunal, the bishop from his altar; and the distant garrisons were surprised or starved by the surrounding multitudes. Had not the Nile afforded a safe and ready conveyance to the sea, not an individual could have escaped, who by birth, or language, or office, or religion, was connected with their odious name".
ولدينا أيضا جوستاف لوبون، المستشرق الفرنسى الذى استوقف نظره ما أبداه حَفَدَةُ قدماء المصريين حين رآهم يقاومون نفوذ الأغارقة والرومان، ثم يعتنقون دين العرب ولغة العرب وحضارة العرب، والذين صاروا عربا خالصى العروبة حتى لقد توارت أمام حضارة أتباع النبى الجديدة حضارةُ الفراعنة القديمة وحضارةُ اليونان والرومان، التى كانت قد غطت الحضارةَ الفرعونيةَ فى بعض المدن، فكتب قائلا إن مصر، التى أكلتها الانقسامات الدينية ونهكتها مظالم الحكام، كانت تحقد أشد الحقد على سادتها الكئيبين، وكانت تَعُدّ من يحررونها من أيدى قياصرة القسطنطينية منقذين، فحُفِظ هذا الشأن للعرب، الذين سرعان ما تشرب المصريون حضارتهم بعدما اسْتَعْصَوْا على التغيير طوال القرون التى تناوب احتلالَ بلادهم اليونانُ والرومانُ والفرسُ. وقد وقف لوبون منبهرا إزاء سياسة عمرو بن العاص وعدله وإنصافه وحكمته وحذقه وتسامحه وتركه أهل البلاد يمارسون شعائر دينهم بكل حرية دون أن يتعرض لشىء من عاداتهم أو تقاليدهم أو نظمهم، اللهم إلا عادتهم الهمجية فى إلقاء عروس حية فى النيل استجلابا لفيضانه، فضلا عن سماحه لهم ببناء كنائس فى الفسطاط ذاتها، وكل ذلك لقاء مبلغ زهيد من المال يساوى خمسة عشر فرنكا عن كل شخص (قادر على دفع الجزية)، وهو ما تقبله المصريون بالرضا والشكر، على عكس الرومان، الذين لم يستسلموا إلا بعد معارك حامية. وزاد لوبون فنفى عن المسلمين أسطورة إحراق المكتبة الإسكندرية متهما النصارى بأنهم هم الذين قاموا بها مثلما هدموا تماثيل الفراعنة. أما العرب فإن أخلاقهم، حسبما قال، تأبى هذا السلوك الهمجى الذى انتهى العلماء من إزالة وَصْمَته عنهم تماما بما لا يحتاج إلى مزيد.
وكعادتنا فى وضع النصوص الأصلية بين يدى القارئ بين الحين والحين كلما كان ذلك فى مكنتنا ها نحن أولاء نسوق النص التالى من كتاب لوبون فى أصله الفرنسى:
"Ce pays est un de ceux où ils ont séjourné le plus longtemps, fondé un de leurs plus importants empires et où leur influence a été la plus considérable. Rien n'est plus frappant que de voir ces descendants des antiques Egyptiens, qui avaient résisté à l'influence, si puissante pourtant des Grecs et des Romains, adopter la civilisation, la religion, la langue de leurs envahisseurs, au point de devenir complètement Arabes. En Perse et dans l'Inde, la civilisation arabe s'était mélangée à la civilisation ancienne, mais sans la détruire ; en Egypte, l'antique civilisation des Pharaons, de même que celle des Grecs et des Romains superposée à elle dans un petit nombre de villes disparut entièrement devant la nouvelle civilisation créée par les disciples du prophète…
Ensanglantée chaque jour par les dissensions religieuses, ruinée par les exactions des gouverneurs, l'Egypte professait une haine profonde pour ses tristes maîtres, et devait recevoir comme libérateurs ceux qui l'arracheraient aux mains des empereurs de Constantinople. C'est aux Arabes que fut réservé ce rôle…
Ce fut l'an 18 de l'hégire (639 de J.-C.) qu'Amrou, lieutenant du khalife Omar, pénétra en Egypte. Nous avons dit déjà combien sa conduite envers la population envahie fut habile. Laissant aux Egyptiens leur religion, leurs lois, leurs usages, il ne leur demanda en échange de la paix et de la protection qu'il leur assurait, que le paiement régulier d'un tribut annuel de 15 francs par tête. Ces conditions furent acceptées avec empressement. Il n'y eut qu'une partie de la population composée de Grecs, c'est-à-dire les soldats, les fonctionnaires et le clergé, qui refusa de se sou­mettre aux envahisseurs. Réfugiés à Alexandrie, ils y soutinrent un siège de quatorze mois qui coûta la vie à vingt-trois mille Arabes.
Malgré ces pertes importantes, Amrou se montra très indulgent pour les habitants de la grande cité ; il leur épargna tout acte de violence et ne chercha qu'à se concilier leur affection, en recevant toutes leurs réclamations et tâchant d'y faire droit. Il fit réparer les digues et les canaux et consacra des sommes importantes aux grands travaux publics. Quant au prétendu incendie de la bibliothèque d'Alexandrie, un tel vandalisme était tellement contraire aux habitudes des Arabes, qu'on peut se deman­der comment une pareille légende a pu être acceptée pendant si longtemps par des écrivains sérieux. Elle a été trop bien réfutée à notre époque, pour qu'il soit nécessaire d'y revenir. Rien n'a été plus facile que de prouver, par des citations forts claires, que, bien avant les Arabes, les chrétiens avaient détruit les livres païens d'Alexandrie avec autant de soin qu'ils avaient renversé les statues, et que par conséquent il ne restait plus rien à brûler…
L'organisation qu'Amrou donna au pays qu'il venait de conquérir indiquait chez lui un esprit très sage. La population agricole fut traitée avec une équité qu'elle ne connaissait pas depuis longtemps. Il établit des tribunaux réguliers et permanents et des cours d'appel, mais ces tribunaux ne pouvaient juger que les musulmans. Si une des parties était un Egyptien, les autorités coptes avaient le droit d'intervenir. Il respecta les lois, les usages, les croyances des indigènes et n'interdit que la coutume qui voulait que, chaque année, une jeune et belle vierge fut enlevée de force à ses parents, et précipitée dans le Nil pour obtenir du dieu du fleuve une élévation suffisante des eaux au moment de l'inondation. La jeune fille fut remplacée par un mannequin de terre, appelé la fiancée, qu'on précipite encore aujourd'hui dans le fleuve au jour fixé pour la cérémonie. Cet usage, vieux peut-être de plus de soixante siècles, est un indice certain de l'existence de sacrifices humains dans la primitive religion égyptienne"[11].
وهذا نفسه هو ما نجده فى كتاب المستشرق البريطانى ستانلى لين بول: "A History of Egypt in the Middle Ages"، إذ نقرأ فيه ما نَصُّه: "There is very little evidence, however, to show that they were grossly ill-treated. 'Amr, the conqueror, received an embassy of monks, who asked for a charter of their liberties and the restoration of their patriarch Benjamin; he granted the charter and invited the exiled patriarch to return. The Muslims naturally favoured their allies of the national or Jacobite church, rather than the orthodox church of Constantinople, which was still represented in Egypt. The governor Maslama allowed the Copts to build a church behind the bridge at Fustat". كما نقرأ، عن ثمار السخط لدى المصريين جراء ظلم الرومان لهم واضطهادهم إياهم، ما يلى: "This wide-spread disaffection contributed to the easy triumph of the Arabs. It was first seen in the taking of Pelusium, when the patriarch, called by the Arabs 'Abu-Myamīn' (possibly meaning the banished Jacobite patriarch Benjamin), advised the Copts to support the invaders".
وفى كتابها: "تاريخ الأمة القبطية وكنيستها" تصور مسز بُتْشَر تصويرًا حيًّا رغم إيجازه قدوم وفد من الرهبان حفاةً إلى عمرو بن العاص من دير وادى النطرون يريدون مقابلة ذلك الفاتح العظيم بغية التفاوض معه على تسليم البلاد للمسلمين لقاء التمتع بالحرية الدينية والشخصية وإعادة بطريقهم الأب بنيامين من منفاه الصحراوى إلى الإسكندرية بعدما قضى ابن العاص على سلطة الرومان فى مصر وخلص الأقباط من الظلم والاستعباد،، وهو ما تم على النحو الذى اتفق الطرفان عليه، وإن كان من الواضح الذى لا يمكن أن تخطئه العين بحال أن الكاتبة تتميز غيظا مما حدث، إذ كانت تفضل أن تحتل قوة أوربية البلاد المصرية على أن يفتحها المسلمون ويخلصوا أهلها من نير الاستعباد والاضطهاد والاستغلال[12].
وبالمثل يؤكد يعقوب نخلة روفيلة صاحب كتاب "تاريخ الأمة القبطية" ترحيب المصريين بالعرب عند فتحهم لبلادهم وتعاونهم معهم فى حربهم ضد الرومان وإرشادهم إياهم إلى عوراتهم ومقاتلهم. وسوف أجتزئ بما قاله خلال تعرضه للحديث عن بناء الفسطاط من أنه "لما شرع عمرو فى بناء مدينة الفسطاط كان القبط من أهم العاملين على عمارتها، ولا سيما رجال الحكومة، الذين كان معظمهم إن لم نقل: كلهم من الأقباط، فشيدوا بها القصور العالية والدور الرحبة والكنائس والديارات الواسعة والمتنزهات والبساتين النضرة. وكان العرب يشجعونهم على ذلك لما فيه من العمران. وهكذا أصبحت الفسطاط، بهمة الأقباط الذين بذلوا النفس والنفيس فى تشييدها، مدينة زاهية زاهرة تحاكى فى البهجة والرونق مدينة منف القديمة، التى شيدتها أيدى الملوك الفراعنة. وفى هذا دليل على إحكام الوفاق وتمكين العلاقات بين القبط والعرب فى ذلك الزمن حتى أباحوا لهم بناءَ كنائسَ ومعابدَ متعددةٍ فى وسط الفسطاط، التى هى مقر جيش الإسلام، على حين أن المسلمين كانوا يصلّون ويخطبون فى الخلاء أو أنه لم يكن لهم غير جامع واحد، الذى بناه عمرو بن العاص"[13].
وعن هذه الفترة أيضا من تاريخ مصر يؤكد إسكندر صيفى فى كتابه: "المنارة التاريخية فى مصر الوثنية والمسيحية" أن أهل مصر ناصروا عمرو بن العاص ضد الروم أبناء دينهم لما لاقَوْه على أيديهم من الاضطهادات المذهبية ولما وفره لهم ذلك الفاتح العظيم من حرية دينية لم يكونوا يحلمون بها[14]. وذكر الكاتب من بين الاختلافات المذهبية بين الرومان والمصريين إيمان الأخيرين بأن المسيح لم يُصْلَب بل شُبِّه لليهود ليس إلا[15]. كما ذكر أن بطريق الإسكندرية فى عهد هرقل، واسمه تيودوروس، كان ممن يعتقدون بأن المسيح لم يُصْلَب بل شُبِّه لهم[16].
ويؤكد جرجى زيدان أن القبط كانوا، بسبب الظلم والضطهاد الواقِعَيْن عليهم من قِبَل البيزنطيين، عونا للمسلمين على فتح مصر. كما يشير، ضمن أسباب أخرى أدت إلى نجاح الفتوح الإسلامية وترحيب البلاد المفتوحة بالعرب، إلى انقسام الفرس والروم فيما بينهم، وانحطاط الحياة الاجتماعية فى بلادهم، واشتعال الشحناء بينهم وبين أهل البلاد الأصليين، وخصوصا فى مصر حيث قاسى الأقباط مثلا سلطة الأجانب من فُرْس فإغريق فرومان أجيالا متطاولة فهان عليهم لهذا السبب الانتقال من سلطان إلى سلطان فرارا من الظلم والضغط. ومثلهم أهل الشام، الذين كان حظهم بنفس السوء، وكانوا يائسين من الاستقلال مثلهم، فلم يهمهم أيضا أن يكون حاكمهم روميا أو عربيا. وربما فضلوا العرب على الرومان لأنهم أقرب إليهم لغة ونسبا وأخلاقا، فضلا عن أن الإنسان يتوسم الخير فى القادم المجهول أكثر مما يتوسمه فى الحاضر المعلوم، وبخاصة إذا كان الفرق بينهما ظاهرا كالفرق بين الروم والعرب: فالروم منحطون فاسدو الأخلاق والآداب، بخلاف العرب، الذين كانوا أوانئذ فى دور نموهم وفى إبان نهضتهم، وكان العدل والمساواة شرعتهم، إضافةً إلى ما كان بين أهل هذين القطرين وبين حكامهم الرومان من الانقسامات الدينية. ونفس ما قاله عن النصارى فى البلاد المفتوحة يقال عن اليهود[17]. وهو يطرق هذا المعنى فى كتابه: "تاريخ مصر الحديث" إذ يقول ما نصه: "أما القبط فكانوا أعوانا للمسلمين فى كثير من احتياجاتهم حسب أمر المقوقس"[18]. وفى روايته: "أرمانوسة المصرية" كذلك يهتم بإبراز ترحيب الأقباط بالفاتحين المسلمين.
وها هو ذا أيضا جواهرلال نهرو رئيس وزراء الهند الأسبق يؤكد فى إحدى رسائله لابنته أنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند السُّبْقَى، تلك الرسائل التى جُمِعَتْ بعد ذلك فى كتاب سُمِّىَ بـ"Glimpses of World History"، أن العرب "كثيرا ما ربحوا الحرب دون قتال... وقد سَلَّمَتْ لهم مصرُ بسهولة لأنها قد قاست كثيرا من استبداد الإمبراطورية الرومانية من الحروب الطائفية". وعَرَّج نهرو على أسطورة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية فنفاها نفيا حاسما: "وقد أُشِيع أن العرب أحرقوا مكتبة الإسكندرية، ولكن المعتقَد الآن أن هذا مَحْض اختلاق، إذ إن للكتب عند العرب احتراما كبيرا يمنعهم أن يسلكوا هذا المسلك البربرى. ويحتمل أن يكون الإمبراطور ثيودوسيوس، إمبراطور القسطنطينية الذى حدثتكِ عنه، هو المسؤول عن هذا الخراب أو جزءٍ منه لأنه لم يكن راضيا عن الكتب الوثنية الإغريقية القديمة التى كانت تتضمن الأساطيرَ والفلسفةَ اليونانيةَ القديمة. وقد أُحْرِق جزءٌ من المكتبة قبل ذلك بزمن طويل إَبَّان حصار يوليوس قيصر للإسكندرية". وفى نهاية الرسالة يقول إن "العرب كانوا فى بداية يقظتهم متقدين حماسا لعقيدتهم، وإنهم كانوا مع ذلك قوما متسامحين لأن دينهم يأمر فى مواضع عديدة بالتسامح والصفح. وكان عمر بن الخطاب شديد الحرص على التسامح عندما دخل بيت المقدس. أما مسلمو أسبانيا فإنهم تركوا للجالية المسيحية الكبيرة هناك حرية العبادة التامة. وكانت صلات المسلمين مع الهند، التى لم يحكموا منها إلا السِّنْد، صلات ودية. والواقع أن أبرز ما يميز هذه الفترة من التاريخ هو الفرق الشاسع بين تسامح العرب المسلمين وتعصب النصارى الأوربيين"[19].
ولدانيال رُوبْس، الروائى وأستاذ التاريخ وعضو الأكاديمية الفرنسية، كتاب ضخم من أربعة عشر مجلدا بعنوان "Histoire de l'Eglise" تحدث فى المجلد الثالث منه عن الفتوح الإسلامية مؤكدا أن طوائف من أهل البلاد التى فتحها العرب قد تحالفت معهم ضد اضطهادات هرقل إمبراطور بيزنطة. ومن هؤلاء البطريق القبطى بنيامين، الذى أعاده عمرو بن العاص من مخبئه فى الصحراء، فعقد معه اتفاقا أعيدت إليه بمقتضاه أموال الكنيسة القبطية، وضمن له تعاون النصارى مع المسلمين. ويؤكد الكاتب أيضا أن النصارى، حتى فى الحالات التى لم يتعاونوا فيها مع العرب تعاونا صريحا، قد انقادوا إليهم انقيادا أشبه بالاتفاق، فلم يقفوا إلى جانب الرومان ضدهم، إذ كانوا يعانون الويلات على أيدى هؤلاء الرومان أنفسهم، وهو ما حدث فى مصر، وكذلك فى الشام، الذى استعرب برضًا ودخل موظفوه فى خدمة الفاتحين الجدد دون ممانعة. أما ما كان لا بد من وقوعه فى ميدان المعارك من عنف فهو، حسبما يؤكد الكاتب، أخف كثيرا مما اجترحته أيدى الجرمان فى الغرب، نافيا أى أساس لما يشاع افتراء وزورا من أن المسلمين قد أحرقوا مكتبة الإسكندرية، ومشيرا أيضا إلى أن المسلمين قد حرروا النصارى وساعدوهم فى بناء كنائسهم[20].
وفى "The Arabs in History" لبرنارد لِيوِسْ نقرأ ما كتبه ذلك المستشرق اليهودى، الذى لا يمكن أبدا أن يتهمه متهم بالانحياز للمسلمين، أن الأقباط كانوا من السخط على سادتهم الرومان وحكمهم الاستبدادى بحيث كانوا على استعداد لمساعدة الفاتحين العرب: "The Copts were intensely dissatisfied with Greek rule and ready to help the invaders". ولم يكتف لِيوِسْ بذلك، بل عرّج على أسطورة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية، فنفاها بقوة مؤكدا أن الدراسات الجادة المدققة انتهت إلى تفنيدها تماما، علاوة على أن مكتبة السيرابيوم كان قد تم تدميرها قبل مجىء العرب إلى مصر بزمن طويل[21].
ولننصت إلى كلامه وهو يتحدث فى هذا الموضوع بلغته الأم: "A story common in many books tells that after the Arab occupation of Alexandria the Caliph ordered the destruction of the great library of that city on the grounds that if the books contained what was in the Qur'an they were unnecessary, whereas if they did not they were impious. Critical scholarship has shown the story to be completely unfounded. None of the early chronicles, not even the Christian ones, make any reference to this tale, which is first mentioned in the thirteenth century, and in any case the great library of the Serapeum had already been destroyed in internal dissensions before the coming of the Arabs.".
كذلك يقرر أنتونى ناتنج بقوةٍ أن قبط مصر قد مالوا مع المسلمين وأَبْدَوْا تعاطفهم نحوهم، إذ عانَوْا على أيدى البيزنطيين أفظع ألوان الاضطهاد بسبب اختلاف المذهب ورفضهم التنازل عن عقيدتهم فى المسيح لحساب عقيدة الإمبراطور البيزنطى. كما كان الرهبان الأقباط يعذَّبون ويسامون الـجَلْد بالسياط، وأُغْرِق بَطْرِيقُهم فى البحر بعدما وضع فى زكيبة مقفلة رُبِطت بها بعض الأثقال، ومن ثم مَثَّل لهم المسلمون، الذين طارت شهرتهم فى الآفاق بأنهم متسامحون مع أهل الديانات الأخرى، تقدما ملموسا[22].
وعلى ذات المنوال يؤكد د. نظمى لوقا أن قبط مصر "كانوا يَتَوَسَّمُون فى العرب الخيرَ لِمَا سمعوه عن فتوحهم فى الشام وأنهم حافظوا على الكنائس والديور، وتركوا للأهالى الحرية كاملة، ولم يَقْسِروا أحدا على شىء يتصل بعقيدته أو ملته، وأنهم يُجِلّون القُسُوس والرهبان ويحمون الصوامع والهياكل والصلبان. وهذا نقيض ما أرهق القبط من قيرس والى هرقل، الذى سام القبط العذاب ليحملهم على ملة من المسيحية تخالف ملتهم، وأشاع فيهم العَسْف والقتل. ورأى القبطُ من سيرة العرب فى شهورِ حربِ الفتح كيف فعلوا مثل ذلك بالأقاليم التى وقعت فى مصر تحت حكمهم، فلم يقتضوا من أحد غير الجزية المعقولة. وتلك فى نظرهم حالةٌ ما كانوا ليحلموا بخير منها. فلا ضَيْر عليهم أن يَخْلُف الحاكمُ الجديدُ الحاكمَ القديمَ، فهم على الحالين محكومون، ولكنهم عَسِيُّون الآن أن يجدوا الأمن والدَّعَة والراحة وحرية العبادة بعد العَسْف والخوف والاستبداد ومصادرة العقيدة. ولا يفوتنا فى هذا المقام أن العصر لم يكن فى أى مكانٍ عصرَ عصبياتٍ قومية، فالحكم الرومانى الطويل أَقَرَّ فى النفوس أن الناس بين حاكم ومحكوم، وأن الحاكم قد يكون من غير جنس المحكوم. فالعصبية القومية لم تكن قد تَفَشَّتْ بعد. ولذا انتفت الغَضَاضة من استبدال العرب بالرومان"[23]. ثم يمضى لوقا فى الفصل التالى فيفنّد خرافة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية، تلك الخرافة التى يرددها الأغبياء الموتورون رغم أن العلماء الأعلام من مستشرقين وعرب قد انْتَهَوْا جميعا إلى أنها حكاية سخيفة لا تثبت على مَحَكّ التمحيص.
ومن لبنان نأتى إلى الكاتب النصرانى نصرى سلهب فنجده يقول ذات الكلام وأكثر: "إذا كان لنا أن نجرى مقارنة بين ما كان يحصل فى الماضى السحيق أو القريب بل فى الحاضر وبين ما فعله المسلمون المنتصرون لَتَبَيَّن لنا أنهم كانوا بين الشعوب أكثرهم رحمة ورفقا وتسامحا. ولسنا بحاجة إلى أن نورد الأدلة على ذلك، بل حَسْبُنا أن نعيد إلى الأذهان ما فرضه الألمان على فرنسا من مبالغ كثيرة مُرْهِقة على إثر سقوط باريس عام 1870، وما فرضه الحلفاء من تعويضات على ألمانيا نفسها على إثر انتصارهم عليها عام 1918، وما اتخذته الدول مجتمعة من إجراءات بحق ألمانيا واليابان مثلا". ثم يضرب مثالين اثنين من الحرب العالمية الثانية فيقول: "كانت الحرب قد أشرفت على الانتهاء، واتضح للجميع أن اليابان فى حالة احتضار موشكة أن تلقى السلاح، فإذا بخَصْمها[24] يلقى على مدينتين فيها: هيروشيما وناكازاكى قنابل ذرية أدت إلى قتل آلاف الناس، وحرق آلاف وتشويه آلاف من رجال ونساء وأطفال وعُجَّز ومرضى. كما تسببت بمحو المدينتين من جذورهما، فلم يبق فيهما من يُخْبِر ويُنْبِئ. وكان النازيون خلال الحرب نفسها يلقون بالأسرى والمعتقلين جماعاتٍ فى الأَوَاتِين أو فى غرف الغاز الخنّاق، ويلجأون بهذه الأساليب إلى القتل الجماعى، فإذا الضحايا تسقط بالمئات والآلاف بل بعشرات الآلاف. وإذا صح أن المسلمين فى فتوحاتهم قد لجأوا إلى شىء من العنف بحق شعوب البلدان التى فتحوها فلا بد أن يكون هنالك أسباب برّرت ذلك العنف. فالحروب ليست رَشْق ورودٍ ونَثْر فُلٍّ وياسمين، ولا هى رَشّ ماء الزهر والعطور... إنها مع الأسف حديدٌ يُدْمِى ويُمِيت، ونارٌ تحرق وتزهق الروح. بل إنها سلاسل تقيد الحرية بل تمحوها أحيانا وتحجزها. إنها دمار وخراب، وويلات ومصائب تنصبّ على الغالب والمغلوب فى آن معا. لقد خاض بعضُ رؤساء الكنيسة، بعضُ البابوات، حروبًا وقادوها بأنفسهم، فأشرفوا على القتل والدمار. وكانوا أحيانا منتصرين، وأخرى خاسرين".
ثم يضيف قائلا: "واضح وثابت أن مسيحيى الشرق وجدوا فى الفاتحين المسلمين منقذين لهم من البيزنطيين لأن هؤلاء الأخيرين، وهم مسيحيون، مارسوا على رعاياهم المسيحيين اضطهادا شبه مستمر لأسبابٍ تَمُتّ بصلةٍ وُثْقَى إلى المعتقدات والإيمان. ومن الثابت أيضا أن مسيحيى الغرب قد تعرضوا لاضطهادات وأعمال عنف من قتل وتشريد وحَجْر حرية لا يعرف التاريخ لها مثيلا إلا نادرا، وأن أعمال العنف المشار إليها قد مارسها وقام بها مسؤولون مسيحيون أراقوا دماء إخوتهم فى الدين لا لسبب إلا لأن هؤلاء المساكين أرادوا أن يكونوا مسيحيين وفق قناعتهم وإيمانهم. وموجة الاضطهاد تلك، بل الموجات، قد جرفت فى تيارها الصاخب يهودا ومسلمين لإرغامهم على اعتناق الدين المسيحى أو قِصَاصًا لهم لكونهم غير مسيحيين. ولو كان لنا أن نورد الأمثلة والأدلة على صحة هذا الرأى لاقتضى عشرات الصفحات. لذلك نكتفى بمقاطع عرّبناها تعريبا كاد أن يكون حرفيا، وهى تدل دلالة صريحة على أن المسيحيين كانوا أحيانا كثيرة ضحايا إخوانهم فى الدين، وأن المسلمين أظهروا من التسامح الدينى ما لم يظهره شعب منتصر عبر التاريخ"[25]. ثم يمضى سلهب موردا بعض نصوص تبرهن على صدق ما يقول.
ويقدم ألبرت حورانى عدة أسباب لهذا النجاح الذى لقيه العرب فى كسب قلوب الشعوب التى فتحوا بلادها، فيقول إن أهل تلك البلاد بوجه عام لم يكونوا يبالون بجنس من يحكمهم أو دينه ما دام يوفر لهم الأمان ولا يرهقهم بالضرائب ويحترم دينهم ويتركهم يمارسون حياتهم غير متعرض لشىء من عاداتهم ونظامهم الاجتماعى، وهو ما توفر فى الحكم العربى. كما أن سكان المناطق فى جنوب العراق والشام، الذين كانوا يخضعون لحكم اللخميين والغساسنة العرب، آثروا الحكم العربى على حكم الفرس والرومان[26].
وفى مقال له بجريدة "الشعب" المصرية بتاريخ 21 مارس 1987م عنوانه: "بالحوار والتحرك الشعبى وليس بالأمن المركزى" يقرر د. ميلاد حنا أن الإسلام حين دخل مصر فى خلافة عمر بن الخطاب "كان دخوله بترحيب من أهلها... وظل الإسلام ينتشر فى الشعب الواحد فى مصر تدريجيا لعدة قرون إلى أن كان الأزهر، فصار منارة للفكر الإسلامى، واشترك فى صياغة الفقه والفكر والتشريع. ولم يكن فى مصر فى أية مرحلة من تاريخها الطويل إلا لغة واحدة لشعبها الواحد: سادت الهروغليفية قرون الفراعنة إلى أن تطورت اللغة فكتب المصريون الهروغليفية بحروف يونانية مع ألفاظ جديدة، فسادت اللغة القبطية لغة واحدة لشعب واحد قرونا طويلة إلى أن حلت اللغة العربية لغة واحدة لشعب واحدة لما يزيد الآن على ألف عام".
وفى تناوله لهذا الموضوع يقرر المستشار إدوار غالى الذهبى أن اللقاء الأول بين الصحابى الجليل عمرو بن العاص والبطريق القبطى بنيامين سنة 640م كان لقاء مودة، وأن عمرا أكرم البطريق وأمّنه. وهو يستشهد على هذا ضمن ما يستشهد بما أوردناه آنفا عن ساويرس بن المقفع فى "تاريخ البطاركة"، وكذلك بما ورد فى كتاب السِّنِكْسار، الذى يذكر أنه فى اليوم التاسع من شهر طوبة (17 يناير) تحتفل الكنيسة بذكرى البابا بنيامين وأن العرب جاؤوا إلى مصر وفتحوها بقيادة عمرو بن العاص، الذى قرّب إليه رؤساء القبط وأحسن معاملتهم، فاتجه المصريون إلى إصلاح شؤون كنيستهم بعدما اختل نظامها وتفرق شملها. وكان أولئك الرؤساء قد قُدِّموا إلى ابن العاص وأعلموه بخبر اختفاء البابا بنيامين طالبين عودته إلى كرسيه، فاستدعاه عمرو ومنحه الحرية الدينية وأعاد له الكنائس التى كان قد اغتصبها البطريق البيزنطى وأمره أن يتصرف فى أمورها كما يريد، فطابت لذلك قلوب النصارى وشكروا صنيع عمرو إليهم. وكانت النتيجة أن النصارى المصريين وقفوا إلى جانب المسلمين ضد أى محاولة من قِبَل الرومان لاستعادة مصر، وكذلك ضد أى غزو غربى فى أى وقت من الأوقات قديما وحديثا. كما ذكر المستشار الذهبى أنه قد بُنِيَتْ فى مصر كنائس كثيرة بعد الإسلام بدءا من السنوات الأولى لدخولها فى حكم المسلمين، وأن جميع الكنائس الموجودة فى مدينة القاهرة ينطبق عليها قبل غيرها هذا الكلام على أساس أن القاهرة نفسها لم تكن موجودة قبل العصر الفاطمى، فكل مبانيها بما فيها الكنائس إذن لا يمكن أن تكون قد بُنِيَتْ قبل الإسلام، بل ولا قبل العصر الفاطمى[27].
ويؤكد د. نبيل لوقا بباوى أن الأقباط قد رحبوا بالمسلمين رغم أن الروم الذين كانوا يحكمونهم مسيحيون مثلهم، إلا أنهم قد لقُوا على أيديهم العقاب ألوانا وأشكالا لم تعرفها البشرية من قبل بعد انقسام الديانة المسيحية إلى ملتين: كاثوليكية وأرثوذكسية، فضلا عما كانوا يفرضونه عليهم طوال الوقت من ضرائب باهظة يئنون تحتها ولا يستطيعون النهوض بها. وقد مضى د. بباوى يستعرض تاريخ مصر على مدار القرون المتتابعة فى عهد الرومان والاضطهادات البشعة التى أوقعها هؤلاء (وأوقعها كذلك الفرس فى الفترة القصيرة التى حكموا فيها مصر) بالمصريين ورجال دينهم وبطارقتهم... إلى وصل إلى الفتح الإسلامى على يد القائد العظيم عمرو بن العاص، الذى وضع حدا لهذا العذاب الجبار بفتحه الكريم لمصر وأعطى النصارى الحرية الدينية كاملة. وهو يُرْجِع هذا التسامح وهذه الرحمة إلى ما كان الرسول الكريم صلوات الله وسلاماته عليه قد أوصى به أصحابه، إذ بشرهم بأنهم سوف يفتحون مصر، فعليهم أن يعاملوا أهلها معاملة كريمة طيبة لأن لهم فيهم نسبا وصهرا، مشيرا بذلك إلى أن هاجر أم أبيهم إسماعيل مصرية، كما أن مارية أم ابنه إبراهيم مصرية. ونصوص الأحاديث التى أرودها د. نبيل هى: "اللهَ فى قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عُدّة وإخوانا فى سبيل الله"، "استوصوا بهم خيرا، فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله"، "ستفتحون مصر، وهى أرض يسمى فيها القيراط. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما". وواضح من هذه النصوص أنها تتنبأ بفتح مصر ودخول أهلها فى الإسلام أفواجا بحيث لم يبق الآن منهم على النصرانية إلا نحو خمسة بالمائة ليسوا كلهم مصريين دمًا.
وينتهى بباوى إلى التأكيد بأنه "بعد ذلك الاستعراض التاريخى من واقع أمهات الكتب المسيحية لا يستطيع أحد أن يؤيد ما يقوله المستشرقون بأن الإسلام انتشر بحد السيف فى مصر، بل الحقيقة أن أهل البلاد من الأقباط الأرثوذكس فى مصر كانت لديهم رغبة قوية فى هزيمة الجيوش البيزنطية الرومانية. لذلك قام الأقباط الأرثوذكس بإرشاد قوات عمرو بن العاص فى كل تجولاتها فى مصر لتخليصهم من حمامات الدم والمقابر الجماعية التى كانت ينصبها الجنود الرومان للأقباط الأرثوذكس فى مصر والشام"، وأن "المسيحيين فى مصر لَقُوا أشكالَ العذاب بكل أنواعه على يد الدولة الرومانية. ولم تَعِ الدولة البيزنطية أمامهم إلا خيارين: الخيار الأول هو عبادة الأوثان، أى عبادة الإمبراطور، والخيار الثانى هو القتل. وبعد أن أصبحت الديانة المسيحية هى الديانة الرسمية للدولة البيزنطية وضعوا المسيحيين فى مصر أمام خيارين: الخيار الأول القتل، والخيار الثانى هو ترك عقائدهم الأرثوذكسية فى الديانة المسيحية واتباع العقائد الكاثوليكية. لذلك حينما أتى عمرو بن العاص وعرض تخليصهم من عذابهم على أن يدفعوا الجزية أو ضريبة الدفاع مقابل الدفاع عنهم وتخليصهم من ظلم الدولة الرومانية على أن يباشروا عقائدهم بحرية تامة حسب معتقداتهم الدينية فى طبيعة السيد المسيح رحّبوا بذلك".
ويرى المؤلف أن "أهم شىء فى مبادئ الشريعة الإسلامية التى تطبق على غير المسلمين بعد دخول عمرو بن العاص هو حرية العقيدة لغير المسلمين فى مصر تطبيقا لمبدإ "لا إكراه فى الدين" الوارد فى القرآن الكريم دستور المسلمين. وعلى ذلك تطبق على غير المسلمين فى مصر شرائع ملتهم فى نطاق الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق لأنها مسائل مرتبطة بالعقائد وشرائع الملة... وقد بنيت كنائس كثيرة بعد دخول الإسلام مصر فى القرن الأول الهجرى".

الخميس، 20 أكتوبر 2011

النميمة

النميمة
اعلم ـ أخي الكريم ـ أنّ البهتان على البريء أثقل من السموات، والصمت سلامةٌ وهو الأصل، والسكوت في وقته صبغة الرجال، كما أن النطق في موضعه أشرف الخصال.

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

وبعد:

فإنّ من أمراض النفوس التي انتشرت في المجتمع المسلم مرض النميمة.. وهو داء خبيث يسري على الألسن فيهدم الأُسر، ويفرق الأحبة، ويُقطع الأرحام.

في هذا الموضوع سنعرف حكم الله فيها وزواجرها وأسباب بواعثها ثم كيفية الخلاص منها.

حفظ الله ألسنتنا ونزه أسماعنا عن كل ما يشين.

وصلى الله على نبينا محمد الله صلى الله عليه و سلم .

مدخل:

يتميز المجتمع المسلم بصفات المحبة والأخوة؛ تزين المحبة القلوب وتُجمل الابتسامة الوجوه.

فالأساس بين المؤمنين الأخوة والرفقة الطيبة، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: من الآية 10]. وقد حرم تعالى على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [سورة المائدة: 91].

وامتن سبحانه وتعالى على عباده بالتآلف بين قلوبهم فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [سورة آل عمران: من الآية 103]. وقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [سورة الأنفال: 62-63].

وينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلاّ كلاما تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنَّة الإِمساك عنه، لأنّه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي الله صلى الله عليه و سلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» ففي هذا الحديث المتفق على صحته نص صريح في أنّه لا ينبغي أن يتكلم الشخص إلاّ إذا كان الكلام خيرا، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم.

قال الإمام الشافعي: "إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم وإن شك لم يتكلم حتى يظهر".

تعريف النميمة:

اسم النميمة إنّما يطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى القول فيه. كما تقول: فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا.

وليست النميمة مختصة به، بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث.

وسواء كان الكشف بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، وسواء كان المنقول عن الأعمال أو من الأقوال. وسواء كان ذلك عيبا ونقصا في المنقول عنه أو لم يكن، بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.

بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه إلاّ ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع معصية.

مثل أن يرى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، أما إذا رآه يخفي مالًا لنفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء للسر.

وإن كان ما ينم به نقصا وعيبا في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة.

وبهذا يتضح أنّ النميمة نقل كلام النّاس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد وكشف السر وهتك الستر.

والبهتان على البريء أثقل من السموات وويلٌ لمن سعى بوشاية بريء عند صاحب سلطان ونحوه، فصدقه، فربما جنى على بريء بأمر يسوءه وهو منه براء.

قال يحيى بن أكثم: "النمام شر من الساحر، ويعمل النمام في ساعة مالا يعمل الساحر في سنة".

ويقال: "عمل النمام أضر من عمل الشيطان، لأن الشيطان، بالخيال والوسوسة وعمل النمام بالمواجهة والمعاينة".

حكم النميمة:

النميمة من أقبح القبائح وكثر انتشارها بين النّاس حتى ما يسلم منها إلا القليل.

والنميمة محرمة بإجماع المسلمين وقد تظاهرت على تحريمها الدلائل الصريحة من الكتب والسنة وإجماع الأمة.

قال الحافظ المنذري: "أجمعت الأمة على تحريم النميمة وأنّها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل.

وقد حُرمت النميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين.

أدلة تحريم النميمة:

قال الله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [سورة القلم: 11].

وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة قّ: 18]. وقال جل وعلا: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [سورة الهمزة: 1].
قيل الهمزة: النمام.

وقال تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [سورة المسد: من الآية 4].
قيل: كانت نمامة حمالة للحديث إفسادا بين النّاس، وسميت حطبا لأنّها تنشر العداوة والبغضاء بين النّاس كما أنّ الحطب ينشر النّاس، والنميمة من الأذى الذي يلحق المؤمنين ويُفسد بينهم.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب: 58].

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : « صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة نمام» [متفق عليه].

وقد ذكر صلى الله عليه و سلم أنّه لا يدخل الجنة نمام، فإذا لم يدخل الجنة لم يكن مأواه إلاّ النار، لأنّه ليس هناك إلاّ الجنة أو النار، فإذا ثبت أنّه لا يدخل الجنة ثبت أن مأواه النار.

وقال صلى الله عليه و سلم : «ألا أخبركم بشراركم؟» قالوا: بلى. قال: «المشاؤن بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب».

ولنتأمل قول الرسول صلى الله عليه و سلم : «من أشاع على مسلم كلمةً يشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة».

هذا جزاؤه يوم القيامة وقبل ذلك عذاب القبر. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله».

قال العلماء في معنى «وما يعذبان في كبير»: "أي في زعمهما وقيل: كبير تركه عليهما".

ويقال: "أنّ ثلث عذاب القبر من النميمة".

ولقد حرم الله جل وعلا المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس ورغب في الإصلاح بين المسلمين. قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [سورة الأنفال: من الآية 1].

وعن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة».

دوافع النميمة:

إنّ ممّا يدفع الإنسان إلى النميمة بين النّاس بواعث خفية منها:

أولًا: جهل البعض بحرمة النميمة وأنّها من كبائر الذنوب، تؤدي إلى شر مستطير، وتفريق أحبة، وتهديم بيوت، وإشاعة التباغض والتناحر بين المسلمين.

ثانيًا: التشفي والتنفيس عما في النفس من غلٍ وحسد وذلك بالنميمة بين الأحبة. ومحاولة التنقص من المحسود أمام النّاس.

ثالثًا: مسايرة الجلساء ومجاملتهم والتقرب إليهم بخبر جديد وأمر يستمعون إليه.

رابعًا: إرادة إيقاع السوء للمحكي عنه كنقل الكلام إلى من بيده سلطة أو قوة. أو مرادة إيقاع الضرر بأي شكل كان.

خامسًا: إظهار الحب والتقريب للمحكى له وكأنّه أصبح من أعوانه وأحبابه فلا يرضى بما قال عنه فلان من الناس، بل ينقل إليه كل ذلك وربما يزيد رغبة في زيادة محبة المنقول إليه.

سادسًا: اللعب والهزل فإن هناك مجالس تقام على الضحك والهزل ونقل الكلام بين النّاس.

سابعًا: إرادة التصنع ومعرفة الأسرار والتفرس في أحوال النّاس فينم عن فلان ويهتك ستر فلان.

ماذا تفعل مع النمام؟

أخي الكريم: كل من حملت إليه النميمة وقيل له أن فلانًا قال فيك كذا وكذا، أو فعل في حقك كذا وكذا، أو هو يدبر في إفساد أمرك، أو في ممالأة عدوك، أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستة أمور:

الأول: أن لا يصدقه لأنّ النمام فاسق وهو مردود الشهادة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [سورة الحجرات: من الآية 6].

الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله. قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة لقمان: من الآية 17].

الثالث: أن يبغضه في الله فإنّه بغيضٌ عند الله تعالى ويجب بغض من يبغضه الله تعالى.

الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [سورة الحجرات: من الآية 12].

الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسس والبحث والتحقق، إتباعا لقول الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [سورة الحجرات: من الآية 12].

السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه، ولا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نماما ومغتابا وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت.

قال الحسن: "من نمَّ إليك نمَّ عليك". وهذه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإِفساد بين النّاس والخديعة وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.

قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [سورة الشورى: من الآية 42]. والنمام منهم.

وقال صلى الله عليه و سلم : «إنّ من شرار النّاس من اتقاه النّاس لشره» والنمام منهم.

وقال صلى الله عليه و سلم : «لا يدخل الجنة قاطع» قيل: وما القاطع؟ قال: «قاطع بين النّاس» وهو النمام وقيل: قاطع الرحم.

قال مصعب بن عمير: "نحن نرى أنّ قبول السعاية شر من السعاية لأنّ السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي فلو كان صادقا في قوله لكان لئيما في صدقه حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة".

من صفات النمام

قال الله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [سورة القلم: 11-13].

ووصف القرآن الكريم النمام بتسع صفات كلها ذميمة:

الأولى: أنّه حلاف.. كثير الحلف ولا يكثر الحلف إلاّ إنسان غير صادق يدرك أن النّاس يكذبونه ولا يثقون به فيحلف ليداري كذبه ويستجلب ثقة النّاس.

الثانية: أنّه مهين.. لا يحترم نفسه ولا يحترم النّاس قوله، وآية مهانته حاجته إلى الحلف، والمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطاناً ذا مال وجاه.

الثالثة: أنّه همَّاز.. يهمز النّاس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم على حدٍ سواء.

الرابعة: أنّه مشاء بنميم.. يمشي بين النّاس بما يفسد قلوبهم ويقطع صلاتهم ويذهب بمودتهم. وهو خلق ذميم لا يقدم عليه إلاّ من فسد طبعه وهانت نفسه.

الخامسة: أنّه مناع للخير.. يمنع الخير عن نفسه وعن غيره.

السادسة: أنّه معتدٍ.. متجاوز للحق والعدل إطلاقا.

السابعة: أنّه أثيم.. يتناول المحرمات ويرتكب المعاصي حتى انطبق عليه الوصف الثابت والملازم له "أثيم".

الثامنة: أنّه عتل.. وهي صفة تجمع خصال القسوة والفضاضة فهو ذا شخصية كريهة غير مقبولة.

التاسعة: أنّه زنيم.. وهذه خاتمة صفاته.

قال عبدالله بن المبارك: "هو ولد الزنا الذي لا يكتم الحديث".

ذو الوجهين

أخي الكريم.. أعظم من النميمة هذا الذي يتردد بين المتعاديين، ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه.

وإن لم ينقل كلاما ولكن حسن لكن واحد منهما ما هو عليه في المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين.

وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره، وكذلك إذا أثنى على كل واحد منهما في معاداته، وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين، بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين ويثني عليه في غيبته وفي حضوره وبين يدي عدوه.

قال صلى الله عليه و سلم : «من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانا من نار يوم القيامة».

وقال عليه الصلاة والسلام: «تجدون من شر عباد الله يوم القيامة: ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «تجدون الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه» [متفق عليه].

روي عن حماد بن سلمة أنّه قال: باع رجل غلاما فقال للمشتري: ليس فيه عيب إلاّ أنه نمام فاستخفه المشتري، فاشتراه على ذلك العيب، فمكث الغلام عنده أياما ثم قال لزوجة مولاه: إن زوجك لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال لها: خذي الموس واحلقي شعرات من باطن لحيته إذا نام، ثم جاء إلى الزوج، وقال: إن امرأتك تخادنت (يعني اتخذت خليلًا) وهي قاتلتك، أتريد أن يتبين لك ذلك؟ قال: نعم، قال: فتناوم لها، فتناوم الرجل فجاءت امرأته بموس لتحلق الشعرات، فظن الزوج أنّها تريد قتله، فأخذ منها الموس فقتلها، فجاء أولياؤها فقتلوه، فجاء أولياء الرجل ووقع القتال بين الفريقين.

أخي.. ها هو ذو الوجهين:

يسعى عليك كما يسعى إليك فلا

تأمن غوائل ذي وجهين كياد

درر من أقوال السلف

اعلم ـ أخي الكريم ـ أنّ البهتان على البريء أثقل من السموات، والصمت سلامةٌ وهو الأصل، والسكوت في وقته صبغة الرجال، كما أن النطق في موضعه أشرف الخصال.

وإليك بعضا من أقوال وأفعال السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ:

- زار بعض السلف أخوة فنم له عن صديقه. فقال له: يا أخي أطلت الغيبة وجئتني بثلاث جنايات:
بغضت إليّ أخي، وشغلت قلبي بسببه، واتهمت نفسك الأمينة.

- رفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته، فوقع على ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أفضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكًا في مستور، ولولا أنّك في خفار شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوق العيب فإن الله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم صبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله.

- كان بكر بن عبد الله يقول: عليكم بأمر إن أصبتم أجرتم وإن أخطأتم لم تأثموا، وإياكم وكل أمر أن أصبتم لم تؤجروا وإن أخطأتم أثمتم.
قيل: ما هو؟ قال: سوء الظن بالناس فإنكم لو أصبتم لم تؤجروا وإن أخطأتم أثمتم.

- قيل لمحمد بن كعب: أي خصال المؤمن أوضع له؟
فقال: كثرة الكلام وإفشاء السر وقبول قول كل أحد.

- قال رجل لعمرو بن عبيد: إن فلانًا ما يزال يذكرك في قصصه بشر.
فقال له عمرو: يا هذا، مارعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين.

-روى عن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ أنّه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئا فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات: من الآية 6]، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: {همَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [سورة القلم: 11] ، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدا.

- قال لقمان لابنه: "يا بني أوصيك بخلال إن تمسكت بهن لم تزل سيدا: ابسط خلقك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم، واحفظ إخوانك، وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك".

- وقال بعضهم: "النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل".

- وقال بعضهم: "لو صح ما نقله النمام إليك لكان هو المجترىء بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك لأنّه لم يقابلك بشتمك".

- كان سليمان بن عبدالملك جالسا وعنده الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنّك وقعت فيَّ وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت. فقال سليمان: إنّ الذي أخبرني صادق. فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقا. فقال سليمان: صدقت قم، ثم قال للرجل: اذهب بسلام.

أخي المسلم:

من نمّ في النّاس لم تؤمن عقاربه

على الصديق ولم تؤمن أفاعيه

كالسيل بالليل لا يدري به أحد

من أين جاء ولا من أين يأتيه

الويل للعهد منه! كيف ينقضه!

والويل للود منه! كيف ينعيه؟!

علاج النميمة

امتن الله تعالى على عباده بالتأليف بين قلوبهم وجمع شتاتهم فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [سورة آل عمران: من الآية 103]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: من الآية 10]. وكل من سعى إلى إشعال الفتنة والعداوة بين المؤمنين فإنّه تجاوز حدود الله ووقع في معصيته، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [سورة المائدة: من الآية 91].

ومن أراد أن يعالج لسانه من النميمة فعليه أن يشغل لسانه ومجلسه بذكر الله وبما ينفع ويتذكر:

أولًا: أنّه متعرضٌ لسخط الله ومقته وعقابه.

ثانيًا: أن يستشعر عظيم إفساده للقلوب وخطر وشايته في تفرق الأحبة وهدم البيوت.

ثالثًا: أن يتذكر الآيات والأحاديث الواردة في النميمة وعليه أن يحبس لسانه.

رابعًا: عليه إشاعة المحبة بين المسلمين وذكر محاسنهم وحفظهم في غيبتهم.

خامسًا: أن يعلم أنّه إن حفظ لسانه كان ذلك سببًا في دخوله الجنة.

سادسًا: أنّ من تتبع عورات النّاس تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف بيته.

سابعًا: عليه بالرفقة الصالحة التي تدله على الخير وتكون مجالسهم مجالس خير وذكر.

ثامنًا: ليوقن أنّ من يتحدث فيهم اليوم وينال من أعراضهم هم خصماؤه يوم القيامة.

تاسعًا: أن يتذكر الموت وقصر الدنيا وقرب الأجل وسرعة الانتقال إلى الدار الآخرة.

أخي الكريم: النمام ينبغي أن يُبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته، لأنّه لا يخاف الله ولا يحافظ على أعراض المسلمين، يحب الفرقة ويزرع الشتات.

فلا تدع النمام يلوث مجلسك ويدنس سمعك بالذنوب والمعاصي، بل كن آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، وازجره شر زجرة وابن له قبيح فعله وسوء صنيعه، ولا تصغ له سمعك وابرأ إلى الله من فعله.

حفظ الله لسانك وسمعك وبصرك.