المعركة الخطأ في الوقت الخطأ
جمال سلطان | 28-02-2011 00:37
أستغرب كثيرا من بعض القيادات السياسية التي تحاول إثارة جدل كبير وتطالب بتغيير الدستور كله من أجل المادة الثانية للدستور ، والتي تنص على أن الإسلام دين الدولة وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع ، أستغرب ذلك لأني أعلم أنهم يعلمون بوجه اليقين أن كلامهم هذا مستفز للغالبية الساحقة من المصريين ، وأن أحدا منهم على المستوى الشخصي لا يستطيع أن يواجه الشعب بهذا الطلب في أي ميدان ديمقراطي ، وأنا أتحدى أي معارض أو حكومي أن يعلن خوضه انتخابات مجلس الشعب أو حتى انتخابات المجلس المحلي وهو يضع على ضمن برنامجه الانتخابي إلغاء الشريعة الإسلامية من الدستور .
أنا أتفهم تماما أي مطالب جدية تؤكد على مدنية الدولة ، بمعنى أن الكل أمام القانون سواء ، لا تمييز على أساس دين أو جنس أو عرق أو انتماء ، وأن الشعب هو مصدر السلطة ، وهو الذي يختار حاكمه وهو الذي يعزله ، وأن لا أحد يحتكر الحديث باسم الدين وأن حقوق الأقليات الدينية ومعابدهم وخصوصياتهم الاجتماعية محمية بقوة القانون ، وأنهم شركاء في الوطن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، أتفهم ذلك وأدافع عنه أيضا ، رغم إيماني بأن تلك القضية مفتعلة أو وهمية ، نتيجة غيبوبة فكرية لبعض النخب التي تعيش في أجواء أدبيات سياسية كلاسيكية تناقش النظم الدينية في أوربا في العصر الوسيط ، ولذلك أتفهم التأكيد على تلك المعاني للتذكير بأن القانون في الإسلام يختلف عن تلك النظم الدينية والطائفية ، ولكني لا أتفهم أبدا أن يثير بعضهم ضجة مفتعلة من أجل أن يأتي بالشريعة الفرنسية أو الألمانية بديلا للشريعة الإسلامية في مصر ، أو أن يحتج على النص على أن دين مصر هو الإسلام الذي يدين به ثمانين مليون مصري تقريبا يبلغون قرابة 94% من سكانها ويصطنع من ذلك هوجة ومعضلة مفتعلة ، فهذا لا يمكن فهمه إلا على أنه خصومة مباشرة مع الدين الإسلامي نفسه ، وكراهية لذكر الإسلام واحتقار وعداء لحضارة المسلمين وتراثهم القانوني والأخلاقي ، لا معنى للمسألة غير ذلك مع الأسف .
فإنك إذا كنت تحصل على مدنية الدولة والمساواة الكاملة أمام القانون وتحقيق كل المبادئ الأخلاقية المتفق عليها بين البشر وحماية قانونية ودستورية كاملة لحقوق الأقليات ، فلماذا ترفع شعارا لا مضمون له ، ولماذا تصر على اختراع معركة مع الدين نفسه ، ولماذا تمارس القهر الفكري والأدبي للغالبية الساحقة من الشعب المصري ، ولماذا تفرض نخبة صغيرة وهامشية وصايتها على ملايين المصريين وتريد أن تجرعهم أفكارها وأيديولوجياتها وعقائدها ، هل كان الشعب المصري يناضل ضد الديكتاتورية الخشنة والفساد من أجل أن يأتي بديكتاتورية ناعمة أخرى لا تحترم إرادة الشعب ولا تعبأ بمشاعره ولا اختياره ، إنني ـ للأمانة والتاريخ ـ أسجل أن من يثير هذه المسألة الآن يريد عمدا تفجير الثورة وإثارة الفتنة ووأد المسيرة الديمقراطية وبعثرة طاقات الإرادة الشعبية نحو الإصلاح وخدمة ذيول المشروع الاستبدادي السابق .
على جانب آخر أستغرب قيام تيارات وجمعيات إسلامية عديدة ومشايخ ودعاة بإثارة غضب واسع بين الناس بدعوى الحفاظ على هذه المادة الدستورية ، وبيانات وتصريحات واجتماعات وجولات عصبية ومتشنجة ، رغم أن المادة غير مطروحة أصلا للتعديل الآن ، فهل فرغنا من قضايانا المطروحة لكي ننشغل بقضية غير مطروحة الآن ، ولماذا صمت هؤلاء جميعا عن مطالب الإصلاح وبقية مطالب الأمة وتمترسوا فقط عند هذه المادة ، ثم إن العتاب يفرض نفسه في تلك الحالة على هؤلاء الذين صمتوا ثلاثين عاما على فساد وإجرام واستبداد وقمع النظام السابق ، بدعوى طاعة ولي الأمر أو حتى الخوف منه أو تحاشي الفتنة المزعومة ، ثم هم يثيرون الزوابع الآن ، الآن فقط ، بدعوى الحفاظ على الدستور والمادة الثانية ، لقد نسي هؤلاء أن أبشع مظاهر الفساد والنهب للمال العام وخطف ثروات الأمة وإفقار شعبها حدثت وهذه المادة موجودة فلم تحل دون ذلك ، ونسي هؤلاء أن حصار المساجد وتأميمها من قبل وزراء الحزب الوطني وطرد الأئمة الشرفاء وإبعاد أهل العلم المؤتمنين وتوظيف خطباء الأمن والفاسدين كان في ظل هذه المادة فلم تمنع ذلك ، ونسيء هؤلاء أن أسوأ ألوان القمع والاستبداد والقتل خارج نطاق القانون للمعارضين والاعتقال مدى الحياة ونشر الرعب والفزع في قلوب ملايين المواطنين كان يتم في ظل هذه المادة ولم تمنع ذلك ، ونسي هؤلاء أن أسوأ ألوان الابتزاز الطائفي الذي مورس ضد الإسلام والمسلمين والذي شمل إهدار القانون وتسليم المواطنات لرجال الدين كأسيرات حدث في ظل هذه المادة فلم تمنع ذلك ، ونسي هؤلاء أن أبشع ألوان التزوير لإرادة الأمة وتحقير المواطن وتهميشه وفرض إرادة شرذمة الديكتاتور وحاشيته "بالجزمة" على الوطن كله كان يتم في ظل هذه المادة فلم تمنع ذلك.
فيا أيها العقلاء ، يا أيها الحكماء ، من مع ومن ضد ، المادة الثانية للدستور ، لوجه الله ، ولوجه هذا الوطن ، ولوجه أجيال قادمة تحلم بوطن حر وكرامة وأمن وعدالة ، ابحثوا عن أولويات الإصلاح وانشغلوا بها ، وأسسوا لدولة القانون والحرية ، ولا تضيعوا أوقاتكم وجهود تلك الثورة المباركة في الهدر ، وفي المعارك الخطأ ، في الوقت الخطأ ، فهذا من أكبر ما يسعد أذناب النظام السابق ، ولا يليق بنا أن نصنع بأيدينا عوائق الإصلاح والتغيير ، ونفخخ بألغام الفتنة طريق الإصلاح ، ونطيل أمد رحلة التحول إلى المستقبل المنشود .
almesryoongamal@gmail.com
قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)....... اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا علي عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك علي و أبوء بذنبي ربي اغفر فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق